نوهت فى الجزء الأول من هذا المقال بأن الفكرة السائدة، حالياً، عن ضرورة التحول إلى الاقتصاد الرقمى والإلكترونى بأقصى سرعة وبأكبر درجة ممكنة بعد خبرات أزمة «كوفيد 19» ليست بالضرورة صحيحة إجمالاً، وعليها الكثير من التحفظات، سواء من جانبى أنا شخصياً أو من جانب العديد من الخبراء المعنيين بالأمر من أوجه مختلفة بجميع أنحاء العالم.
وحاولت أيضاً البدء فى شرح ما حدث تحديداً من الجانب الفنى الاقتصادى على المستويين الدولى والمحلى، وهو ما أنتوى أن أسهب فيه قليلاً بهذا الجزء الثانى، بينما سيأتى الجزء الثالث ليناقش مدى ضرورة إجراء التحول المُشار إليه من الأساس. ونختم فى الجزء الرابع بشكل البدائل المطروحة أو الممكنة له إذا ما اتفقنا على أن تلك العملية ليست بمصير محتوم للجنس البشرى.
والحقيقة التى ذكرتها، أيضاً، فى الجزء الأول هى أن أنماط الاستهلاك فى مجالات عديدة عندما يتم نقلها إلى العالم الافتراضى ببساطة لا تتفق والسلوك الطبيعى للناس فى مجتمعاتنا الحديثة، سواء فى الغرب أو فى الشرق رغم أن البعض قد يعتقد العكس التام.
بعبارة أخرى: مبدأ «التباعد الاجتماعى» فى حد ذاته يتنافى مع الطرق استهلاكنا للمنتجات أو توظيفنا للخدمات، بصرف النظر تماماً عن نوع المُنتج أو الخدمة.
ولا يقتصر هذا على قطاعات الضيافة المختلفة فقط – وإن كان يظهر فيها بشكل خاص وأعطيت أمثلة على ذلك بالجزء السابق – ولكنه فى واقع الأمر يمتد إلى جميع الأنشطة بداية بالملابس التى يجب قياسها ويحلو للعديد من الناس أخذ رأى الغير فيها قبل اقتنائها، عبوراً بالاحتياج إلى مشورة أحد المتخصصين عند شراء حاسب آلى أو هاتف ذكى جديد ووصولاً إلى متعة التسوق نفسها أثناء التجول فى المراكز التجارية أو حتى مجرد السير فى شوارع وسط المدينة المكتظة بالمحلات. فهذه كلها عناصر لا يمكن توفيرها بالفضاء الإلكترونى إلا فى حدود ضيقة للغاية، هذا إن أمكن ذلك أصلاً.
وبالطبع تزداد صعوبة الأمر كلما كان المجتمع المعنى أكثر ترابطاً أو قائماً على فكرة الترابط والتفاعل الاجتماعى، أى أن مجتمعاً مثل المجتمع المصرى بكل تأكيد سيكون أكثر تأثراً بوضوح من المجتمع الألمانى أو السويدى أو غيرهما من المجتمعات التى دخلت الاحترافية والمهنية حتى الحياة الشخصية للأفراد.
ولكن بصرف النظر عن الطبيعة المجتمعية لدولة ما، تعتبر فكرة الشوارع الخاوية وأبواب المحال التجارية المُغلقة وبقاء المواطنين فى منازلهم إلا لقضاء أشد الحاجات ضرورة فكرة لا تناقض فقط الطبيعة البشرية، ولكنها فى واقع الأمر تناقض مبدأ السلوك الرأسمالى نفسه الذى هو مطروح على الساحة فى أيامنا هذه بمنطق السوق الحر المُنافس، اتفقنا عليه أم اختلفنا. هذا لأن ما يحدث فى مثل تلك الحالات، وهو ما حدث بالفعل فى الأشهر القليلة المنصرمة، أن تتحول المنافسة نفسها من جودة وسعر المُنتج أو الخدمة وقنوات توزيعه وتصريفه التقليدية إلى صراع على التواجد بوسائل تسويقية لا تناسب فى مجملها تلك المنتجات والخدمات إلا إذا كانت هناك طريقة ليذوق العميل قطعة صغيرة من الحلوى أو الجبن قبل شرائها أو أن تتاح الفرصة المناسبة للبائع كى يقنع المُشترى المُحتمل بجودة مُنتجه أو خدمته.
بمعنى أن ما سيحدث وما حدث بالفعل بدرجة كبيرة منذ شهر فبراير الماضى على وجه التقريب عندما أطلقت «منظمة الصحة العالمية» أولى دعواتها بالبقاء فى المنازل هو أن الأسواق بدأت تضيق على مجموعة معينة من الماركات الكبيرة والمعروفة للجميع بحيث لا يحتاج المستهلك إلى اختبار جودتها ولا التأكد من أنها ستكون مناسبة له وسيطرت سلاسل المتاجر الكبيرة على معظم الأسواق بشكل شبه كامل واستحوذت شركات الاتصالات على أنصبة خرافية من إجمالى الإنفاق المحلى.
بمعنى آخر: شكل الاقتصاد وهيكله نفسه بدأ يتغير بطريقة جذرية. صحيح أن هذا حدث فى التاريخ عدة مرات من ذى قبل ولكنه لم يحدث أبداً بمثل هذه السرعة الرهيبة وبدون أى مقدمات منطقية، وأيضاً بدون أدنى فرصة لتوفق المؤسسات التجارية ومن قبلها المؤسسات المالية الكبرى أوضاعها بما يتفق مع نسق جديد يحتاج إلى آليات مختلفة تماماً عما نعرفه وليس أدل على ذلك من التخبط الذى أصاب البنوك المصرية عندما قررت الحكومة تأجيل جميع أقساط القروض المستحقة لها لدى العملاء لمدة ستة أشهر، فما بالنا بأسواق المال والبضائع التى وصل بعضها إلى قيعان لم يكن أشد المتشائمين سيتخيلها من ذى قبل.
ويطرح هذا سؤالنا الرئيسى: هل هناك فعلاً احتياج لا مناص منه للتحول إلى الاقتصاد الرقمى والإلكترونى؟ وهل يُمكن هذا أصلاً دون إحداث ضرر بالغ بالاقتصاد العالمى.
هذه هى الأسئلة التى سنحاول الإجابة عنها فى الجزء الثالث من هذا المقال.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى