تحدثت فى أول جزءين من هذا المقال عن الفكرة السائدة حالياً القائلة بضرورة التحول إلى الاقتصاد الرقمى والالكترونى بأقصى سرعة وبأكبر درجة ممكنة بعد خبرات أزمة «كوفيد 19»، وأنها ليست بالضرورة صحيحة إجمالاً.
وحاولت فيهما أيضاً شرح ما حدث تحديداً من الجانب الفنى الاقتصادى على المستويين الدولى والمحلى المصرى بينما سيأتى هذا الجزء الثالث ليناقش مدى ضرورة إجراء التحول المُشار إليه من الأساس وسنختم فى الجزء الرابع والأخير بشكل البدائل المطروحة أو الممكنة لذلك إذا ما اتفقنا على أن تلك العملية ليست بمصير محتوم للجنس البشرى.
وأنا فى الحقيقة استعصى تماماً على فهمى المتواضع أن مجرد ظهور وباء فيروسى مثل “كوفيد 19” – دون التقليل من خطورته ومع الاعتراف بشراسته غير المعتادة مقارنة بغيره – يستلزم بالضرورة تغيير شكل الاقتصاد العالمى بهيئته الكاملة والمناداة بالتخلى عن جميع ما كنا نعرفه من ذى قبل، خاصة تجارة التجزئة التى تشكل الجزء الأكبر من الاقتصاديات القومية حول العالم والتى من دونها لن يكون لجميع القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى أى معنى.
صحيح أنه لولا ما قدمته الخدمات الإلكترونية عبر الإنترنت فى هذه الفترة الحرجة لكانت توقفت الحياة بالكامل أو لربما التقط العدوى المليارات من البشر وليس الملايين، ولكن أن نستخلص من ذلك أن هناك حاجة ملحة لبقاء هذا الوضع غير الاعتيادى إلى الأبد أو حتى إلى أجل طويل يشبه القول بأن أغلبية الصناعة يجب أن تظل حربية حتى بعد انتهاء الحرب؛ لأن هناك احتمالاً كبيراً بقيام حرب أخرى جديدة وهو بالمناسبة فى معظم الأحوال احتمال أكبر من ظهور وباء على نفس شاكلة “كوفيد 19” مجدداً فى المستقبل المنظور.
ويتجاهل المنادون بهذا أيضاً أن العلماء سيجدون آجلاً أم عاجلاً لقاح لهذا الفيروس الخبيث يمكننا من التعامل معه مثلما تعاملنا مع الحصبة مثلاً أو أمراض أخرى عديدة.
لا أنكر بالمرة المميزات الوفيرة التى سيأتى بها رقمنة الاقتصاد والتحول إلى إجراء العديد من العمليات التجارية والاقتصادية بشكل عام فى العالم الافتراضى ولكننى أقول إنها فى نهاية الأمر ليست سوى سبل مُساعدة ولن يُمكنها أبداً أن تكون بدائل مستدامة بمفهوم الــSustainable Alternatives أو حلول متكاملة الخصائص، ونحن فى واقع الأمر لا ولن نحتاج إلى ذلك من الأساس.
هذا كله بعيداً عن أنه حتى يومنا هذا لا تزال تنقصنا أدلة علمية دامغة على أن فكرة “التباعد الاجتماعى” هى أصلاً حل للمشكلة وأنها هى بالفعل التى أدت إلى انحسار ملموس للمرض فى مناطق عديدة بأرجاء المعمورة وإن كان هذا نقاش يجب أن يقتصر على الأطباء والمتخصصين فى الإحصاء وعلماء الأوبئة، ولكن الفكرة فى حد ذاتها وبجميع الأحوال لا تصلح فى المرحلة الحالية كى تكون منطلقاً نبنى عليه خططاً طويلة الأجل.
من درس التاريخ يا أيها السادة سيعلم جيداً أن الاقتصاد، أى اقتصاد وأى جانب منه “ذاتى الاستدامة” Self-Sustainable بطابعه وتحكمه آليات تتعلق بسلوكيات ورغبات وتطلعات بشرية لا يمكن تغييرها بين يوم وليلة بإصدار القوانين والقرارات والفرمانات مهما كان يبدو لنا أنها حكيمة وصائبة.
فنحن رأينا بالفعل فى أجزاء عدة من العالم – ومنها دول متقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية حيث يتمتع المواطن بقسط وافر من التعليم وبالتالى أيضاً من الوعى – مظاهرات حاشدة تخرج لإنهاء حالات الإغلاق الكلى أو الجزئى Lockdown وعودة الحياة إلى طبيعتها مجدداً بالرغم من أن العديد من هؤلاء المتظاهرين لم يعانوا كثيراً من إجراءات العزل على المستوى المادى وكانت حكوماتهم أو الشركات التى يعملون بها يعوضونهم بالقدر الكافى أو على الأقل بما لا يسقطهم فى فخ الفقر.
كما أن المبدأ البسيط جداً هنا أيضاً هو أن التفاعل البشرى المباشر لا غنى عنه على المدى المتوسط، فما بالنا بالبعيد لما كانت مجتمعاتنا تقوم فى جوهرها على هذا التفاعل وهو بالتالى أيضاً حال معاملاتنا التجارية، سواء كان المقصود من هذه المعاملات تلك التى تخص الأفراد أو الشركات والشركات العابرة للجنسيات وكذلك التعاملات ما بين الدول التى من غير المنطقى أن تقوم على التجارة الإلكترونية والتى تحتاج إلى ناقلات عملاقة وطائرات ضخمة تنقل البضائع والمنتجات والنفط والمواد الخام، فليست المسألة فى معظم الأحوال ببساطة شراء شاشة عرض تليفزيونى جديدة من على موقع “أمازون”.
لكن فى الوقت نفسه لا يوجد مفر من الاعتراف بأن هناك فعلياً مشكلة طرحتها جائحة “كوفيد 19” وهى بكل تأكيد قضية حساسة تتطلب ليس حل ولكن مجموعة من الحلول كى يُمكن التعامل فيما بعد مع جميع السيناريوهات المُمكنة و سأحاول أن ألقى المزيد من الضوء على هذه االإشكالية شديدة التركيب والتعقيد فى الجزء القادم والأخير من هذا المقال.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى