عرضت فى الأجزاء الثلاثة السابقة من هذا المقال للفكرة السائدة حالياً، فى ظل ما أتت به أزمة «كوفيد-19» من متغيرات، القائلة بضرورة التحول إلى الاقتصاد الرقمى والإلكترونى وحاولت توضيح أنها ليست بالضرورة صحيحة إجمالاً.
كما شرحت أيضاً ما حدث تحديداً على المستوى الاقتصادى دولياً ومحلياً وناقشت قدر المستطاع فى الجزء الثالث مدى ضرورة إجراء التحول المُشار إليه فعلياً، أما فى هذا الجزء الرابع والأخير فساحاول طرح البدائل الممكنة لمثل ذلك التحول بناءً على أن ما سبق وإنما يشير إلى أن تلك العملية ليست بمصير محتوم لبقاء الجنس البشرى.
وأطرف ما فى الأمر هو أن شركات الرقمنة واقتصاد الإنترنت الكبرى نفسها تنفى منذ سنوات أنها تمتلك القدرة على أخذ مرتبة الاقتصاد التقليدى كما نعرفه اليوم، على الأقل بالنسبة للسنوات الخمسين القادمة أو ربع قرن لدى أشد المتفائلين.
صحيح أن جزء ضخم من أنشطة صناديق الاستثمار العالمية – إن لم يكن الجزء الأضخم على الإطلاق – يذهب فى أيامنا هذه إلى تمويل أنشطة تُمارس فى الأساس عبر الإنترنت أو من خلال المجالات الإلكترونية الحديثة ولكن واقع الأمر أيضاً هو أن معظم تلك الأعمال لا تعدو فى نهاية الأمر كونها خدمات مُكملة للقطاعات الاقتصادية التقليدية وخاصة على مستوى البرمجيات وتأتى فى مقدمتها برامج إدارة لوجيستيات تخزين ونقل وتسويق وتوزيع البضائع أو ما يسمى فى الإنجليزية Software as a Service أو اختصاراً SaaS وأخيراً ولكن ليس آخراً إنترنت الأشياء Internet of Things والذى هو معنى أساساً بعمليات الأتمتة الصناعية Industrial Automation بجانب وجود مكونات نقل البيانات فى المنتجات الملموسة التى نستخدمها فى حياتنا اليومية.
وأؤكد هنا مرة أخرى على أن هذا التوجه الاستثمارى فيما يتعلق بالرقمنة والتحول الإلكترونى لا ياتى اختياراً ولا تفضيلاً ولكن ببساطة لأن درجة التقدم التكنولوجى التى وصلنا إليها حتى اليوم لا تتيح لنا سوى ذلك.
ولكن فى نفس الوقت لا ينفى أى من هذا المأزق الحرج للغاية الذى وضعنا فيه فيروس «كوفيد-19» والذى حتى بعدما سينتهى (وهو حتماً سينتهى فى وقت ما كما أشرت فى أحد الأجزاء السابقة) ستظل سحابته السوداء واحتمالية تكراره بشكل من الأشكال تحوم فوق رؤوسنا جميعاً لعقود وعقود.
ما هى الحلول والبدائل الحقيقة إذن؟
ظنى الشخصى أن المحور الأول هو السعى نحو تيسير وتبسيط إجراءات القطاعات الخدمية من خلال الحلول التكنولوجية المُبتكرة بدلاً من محاولة استبدال هذه بتلك ونرى فى مصر مثالاً على ذلك وقت تجديد تراخيص السيارات حيث اصبح ممكناً الحصول على شهادة المخالفات من خلال الإنترنت ولكن دون أن يعفى هذا من ضرورة الذهاب إلى وحدة المرور لفحص السيارة فنياً واستلام الرخصة الجديدة نفسها وما يشبه ذلك فى استخراج شهادات الميلاد والوفاة وبدل فاقد أو تالف البطاقة الشخصية ولكن لا يزال الوجود الجسدى لعقد القران أو تسجيل المواليد مطلوباً بالضرورة وهذه أمور أراها مهمة أن تظل كما هى وإلا وجدنا أنفسنا يوماً ما فى عالم من العوالم المخيفة لروايات وأفلام الخيل العلمى بحق.
والمحور الثانى أن نزيد من مساهمة الأتمتة الصناعية والتكنولوجيا الحديثة فى تحسين الظرف البيئى والصحى فى القطاعات الصناعية بما يساعد على المدى الطويل فى الارتقاء بمستوى الصحة العامة وبالتالى قدرة المواطنين على مقاومة الأمراض بما فيها فيروسات مثل «كوفيد19» الذى نعرف أن قوة جهاز المناعة لدى الإنسان يساعد كثيراً فى التقليل من خطورته.
وأعتقد أنه من الهام أيضاً توجيه المزيد والمزيد والمزيد من الاستثمارات ذات الأموال منخفضة التكاليف إلى مجالات البحث العلمى المختلفة. فنحن لو وجهنا فقط %25 مما ينفق سنوياً على صفقات السلاح والمتوقع لها أن تصل إلى 130 مليار دولار سنوياً عام 2022 مقابل حوالى 186.5 مليون دولار لأبحاث السرطان الذى يقتل 9 ملايين شخص سنوياً على وجه التقريب أو 30 مليار دولار لمكافحة الجوع الذى يقتل 9 ملايين شخص آخريين كل عام، فوقتها ستكون لدينا حلول علمية جاهزة وسريعة لمواجهة أى مرض من الأمراض مهما أتى على غير توقع.
وأخيراً يجب علينا توظيف التكنولوجيا الحديثة بما يرفع من مستوى معيشة المواطن بكافة أنحاء العالم بدلاً من أن يفقدون بسببها الملايين وظائفهم ويقعون فى دائرة الفقر الذى يقلل على سبيل المثال ولا الحصر من قدرتهم على الالتزام بالإجراءات الوقائية فى حالة الأوبئة لحاجتهم إلى الحصول على قوت يومهم بأى طريقة كانت.
حينئذٍ وحينئذٍ فقط يمكننا القول أننا تقدمنا علمياً وأنجزنا شيئاً هاماً، أما التكنولوجيا التى تضر بأولويات البشر وتقوم بتفكيك المجتمعات وتحث على تباعد الشر عن بعضهم البعض وتدمر اقتصاديات الدول وتغيير جبراً من نمط حياتنا، فلا أعتقد أننا بحاجة إليها فعلياً.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى