فى مارس الماضى، عندما كان العالم يعانى من ذروة الوباء، أنهى برنامج المقارنات الدولية أحدث حساباته التي أحصت الأسعار في 176 دولة واستخدمتها لحساب تعادل القوى الشرائية لأسعار الصرف.
ويعد نقص التغطية الإعلامية للنتائج بمثابة تذكير بأن مقاييس النشاط الاقتصادي تأتي في المرتبة الثانية إلا إذا كانت ترتبط بشكل مباشر بالتهديدات الصحية.
حتى في وقت الوباء، تعد الحسابات الدولية المُقارنة مهمة للمقاييس الضرورية بما في ذلك مقارنات الناتج المحلي الإجمالي والمستويات المعيشية عبر الدول وكذلك المقاييس العالمية للفقر وعدم المساوة، وأوضحت أحدث الحسابات أمراً مهماً، وتجلب الحسابات الأخيرة أنباء جيدة وأخرى ليست جيدة إلى حد ما.
الأنباء الجيدة هي أن بيانات عام 2017 لم تحتو بيانات مهمة بشكل خاص، فعلى سبيل المثال، كان اقتصاد الصين واقتصاد الولايات المتحدة بنفس الحجم في 2017، كما كانا كذلك في 2011 (الأولى تعادل فقط ثلثي حجم الأخيرة وفقاً لأسعار الصرف الحالية).
أما الأنباء التي ليست جيدة للغاية هي أن العولمة ونقل الملكية الفكرية دفع الناتج المحلي الإجمالي أكثر بعيداً عن مفهوم (أو سوء فهم) أن الناتج المحلي الإجمالي يقيس الرفاه الحقيقية للأشخاص، ما أضاف على أوجه القصور العديدة للمؤشر التي تم الكشف عنها في السنوات الماضية.
ونتحدث عن الأنباء الجيدة أولاً.
تعد نتائج عام 2017 تحديثا لبيانات عام 2011، وليس بمثابة إعادة تخطيط جذري للجغرافيا الاقتصادية للعالم، وهذا أمر مهم لأن التحديثات السابقة كانت تغير الحجم النسبي للدول والقارات، فتقديرات 2005 على سبيل المثال جعلت العالم يبدو غير متساوي أكثر بكثير مما كان متصورا من قبل، كما أظهرت ارتفاعاً حاداً في مقاييس الفقر.
وهذه الزيادات الواضحة انحسرت في 2011، وهو انحسار استمر في الظهور في بيانات 2017، وهذا الاستقرار يزيد من مصداقية الإحصاءات ومن أهميتها خاصة عندما ينتقل برنامج المقارنات الدولي بعد كوفيد 19 إلى المقاييس الأكثر تقلباً.
أما الأنباء غير الجيدة إلى حد ما، فتأتي من قائمة أغنى دول في العالم وفقاً للناتج المحلي الإجمالي للفرد، وتضم لوكسمبرج وقطر وسنغافورة وإيرلندا وبرمودا وجزر الكايمان وسويسرا والإمارات والنرويج وبرونواي والولايات المتحدة وهونج كونج.
وأياً ما كانت تخبرنا به هذه القائمة، فهو بالتأكيد أن هذه هي قائمة الدول حيث يتمتع الأفراد بأعلى مستويات المعيشة المادية في العالم.
وتعد إيرلندا مثالاً جيداً، فقد جذبت بضرائبها المنخفضة على الشركات، العديد من المؤسسات الكبيرة متعددة الجنسيات التي نقلت أصول الملكية الفكرية إليها، لدرجة أن الدخل الناتج عن هذه الملكية يساهم في الناتج المحلي الإجمالي لإيرلندا، وفي عام 2015، تسبب هذا النقل في نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 26% في عام واحد.
وعلى النقيض، نما الدخل القابل للصرف للفرد في الأسر الإيرلندية بنسبة 4.6% “فقط”، وفقاً للأسعار الحقيقية، وبالتالي فإن المقياس الثاني هو مقياس أفضل للتغير في المستويات المعيشية للأيرلنديين.
ولماذا إذن هذا التضارب؟
11 من أصل 12 دولة في القائمة إما مراكز استثمار أو تعتمد على الموارد الطبيعية، وفي الحالتين، يشكل الاستهلاك حصة صغيرة نسبياً من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك يعود في أغلب الأحيان إلى أن الأرباح تشكل جزءاً أكبر من الدخل الوطني من الأجور والمرتبات.
ومع الوقت، ستساهم الأرباح في دخل بعض الأسر على الأقل وبالتالي في استهلاكها، ولكن في كل الأوقات، يتضمن الناتج المحلي الإجمالي للفرد مبالغ ليست جزءاً من رفاهية الأفراد الحالية أو دخلهم الخاص.
وعلاوة على ذلك، فإن الدخل من رأس المال الأجنبي هو جزء من الناتج المحلي الإجمالي، لأنه يتم توليده داخل الدولة، ولكنه ليس جزءاً من الدخل القومي الإجمالي لأنه ليس مملوكاً لمواطنين محليين.
وهذا يذكرنا بأنه في غياب قنوات إعادة توزيع دخل قوية، تعاني الاقتصادات الغنية بالموارد عادة من عدم مساواة داخلية لأن ملكية الموارد، خاصة المعدنية – تقتصر على قلة قليلة، وواقع أن الناتج المحلي الإجمالي لا يخبرنا أي شيء عمن يأخذ ماذا، هو أحد أسباب الانتقادات الأكثر شهرة لهذا المقياس، كما أنه لا يعبر عن استدامة الموارد الطبيعية أو استغلال البيئة، والمشكلة ليست في طريقة الحساب وإنما في تعريف الناتج المحلي الإجمالي.
وهذه المجادلات لا تطالب بإلغاء أرقام الناتج المحلي الإجمالي التي تعد ضرورية، وإنما تطالب باستخدام أكثر ذكاء للأرقام وقياس ما لا يقيسه الناتج المحلي الإجمالي.
وهناك حاجة لدعم الجهود المتواصلة لتحقيق التكامل بين أرقام البيئة والاقتصاد أو لجعل الناتج المحلي الإجمالي أقل إغفالاً لمشكلات توزيع الدخل، وبالنسبة لصناع السياسة، يعد التركيز الحصري على الناتج المحلي الإجمالي للفرد أو معدل النمو ليس له معنى، ولأقولها بصراحة، قائمة أكبر 12 اقتصاداً ليست بالضرورة مكانة ترغب أي دولة أخرى في أن تكون فيها.
بقلم: أنجوس ديتون، رئيس مشترك للمجموعة الاستشارية الفنية في برنامج المقارنات الدولية.
المصدر: صحيفة “فاينانشيال تايمز”