لم تحظ التركيبة الديموغرافية سوى باهتمام ضئيل فى الاقتصادات، رغم أن شيخوخة السكان وتقلصهم فى أجزاء كثيرة من العالم تعتبر ظاهرة لافتة للنظر وجديدة فى تاريخ البشرية.
ويمكن النظر إلى إيطاليا، على سبيل المثال، التى سجلت، العام الماضى، أقل عدد سنوى للمواليد منذ توحيد البلاد فى منتصف القرن الـ19 ونحو ثلث سكانها فوق سن الـ60.
وكان هناك انخفاض مطلق فى عدد الأشخاص فى إيطاليا منذ عام 2015، حتى مع احتساب صافى الهجرة إلى الداخل، وهو ما يعد حالة متطرفة، لكن بقية الغرب ومعظم أوروبا الشرقية والصين ستتبع الاتجاه ذاته.
ومع ذلك، فى علم الاقتصاد، يتم تشبيه البشر على أنهم مدخلات أيدى عمل يمكن استبدالها بالآلات، بينما تحدث الاتجاهات الديموغرافية خارج الأفق الزمنى لنماذج الاقتصاد الكلى.
وذكرت صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية، أن الآثار المترتبة على نماذج النمو الاقتصادى الحديثة، التى تفيد اعتماد النمو الحقيقى بوضوح على عدد العمال إما من خلال الأفكار فى رؤوسهم أو مهاراتهم، لم تُناقش كثيرا، لذا فإن كتاب الانعكاس الديموغرافى العظيم، الذى كتبه الأكاديمى المرموق تشارلز جودهارت والمدير الإدارى السابق لمؤسسة «مورجان ستانلى» مانوج برادهان، يعتبر استثناء مرحب به.
ما هى الآثار المترتبة على هذه التجربة الطبيعية غير المسبوقة- التى وصفها أكسل ويبر، الرئيس السابق للبنك المركزى الألمانى، ذات مرة بأن أجيال المستقبل تقرر عدم الولادة؟
يقارن الكاتبان جودهارت وبرادهان بين الشيخوخة المتسارعة وانكماش القوى العاملة العالمية وسط الظروف التى نشأت نتيجة للزيادة الكبيرة فى اليد العاملة المتاحة على مستوى العالم إثر دخول الصين إلى الاقتصاد العالمى، والتى جاءت فى ظل ذروة قوة جيل طفرة المواليد فى بداية القرن.
إنها لحظة كبيرة، خاصة عند النظر إلى رصد «صدمة الصين» بأنها سبب رئيسى وراء كل شىء، بداية من اضمحلال وظائف الطبقة المتوسطة فى الغرب إلى الاختلالات المالية التى أدت إلى الأزمة المالية العالمية فى عام 2008.
وقدم الكاتبان بعض التنبؤات القوية، والتى تفيد أن كبار السن، فى أواخر دورة الحياة، لا يدخرون بل ينفقون، لذا فإن تخمة المدخرات، التى جاءت من النوع الذى يُعتقد أنه مهد الطريق أمام أسعار الفائدة المنخفضة الحالية، ستتلاشى مع تقدم السكان فى السن، كما أن أسعار الفائدة الاسمية والتضخم سيرتفعان، والسبب الأساسى فى ذلك يكمن فى نقص العمالة وضغوط الأجور.
وبدلاً من الركود المزمن، أى النمو المنخفض بعناد نتيجة الاستثمار المنخفض مقارنة بالمدخرات، سيشهد الاقتصاد العالمى ركوداً تضخمياً، حيث ستظل الإنتاجية والنمو الحقيقى أبطأ بكثير مما كانا عليه فى الماضى مع ارتفاع الأسعار بشكل أسرع، مما يعنى استمرار نمو مستويات المعيشة، فى أفضل الأحوال، ببطء، وربما تضمحل بشكل أكثر بالنسبة للكثيرين بسبب التضخم.
ومن الشجاعة توقع مستقبل مختلف تماما عن الماضى القريب، لذلك ربما تثبت تنبؤات الكاتبين قريبا أنها صحيحة أو خاطئة، ولكن الكاتبان تجاهلوا القوى الأخرى التى تقود التغيير الاقتصادى، لذلك ربما يكون من الحكمة التفكير فى الكتاب كتجربة فكرية بدلاً من مجرد توقعات، فهو يعترف بالتغير التكنولوجى، ولكنه لم ينخرط كثيراً فى مجال التحول فى نمو الإنتاجية ولا مع الاتجاهات الانكماشية المرتبطة بوضوح مع التقنيات التكنولوجية، نظراً لكونها تتسبب فى انخفاض أسعار العديد من السلع والخدمات.
وهناك فجوة أكبر تتمثل فى عدم التعامل مع قضايا الاقتصاد السياسى، حيث يفترض الكتاب عدم وجود تغيير فى شبكات الأمان الاجتماعى وأعمار التقاعد، وبالتالى إمكانية تجاهل ما قد يحدث فى العالم خارج النماذج الاقتصادية.
ومع ذلك، هناك دول عديدة يمكن ارتفاع نسبة مشاركة الإناث فيها، مثل الولايات المتحدة، خاصة فى فترة ما بعد الوباء، كما أن سن التقاعد يمكن أن يرتفع أكثر فى بعض الدول، ويمكن أن تكون الرعاية الاجتماعية ومعاشات التقاعد محدودة بطرق تزيد من إدخار العمال الأصغر سناً حتى عندما يبدأ المتقاعدون فى عدم الادخار.
ويبدو انخفاض عدد الشباب وكأنه يساهم فى رسم الخط المخصص لدعم كبار السن عند المستويات الحالية، على الأقل بالنظر إلى جميع أشكال عدم المساواة الهائلة التى يواجهونها بين الأجيال المختلفة.