دخل سوق الغاز الطبيعي إلى منطقة جديدة مخيفة، ووصلت الأسعار إلى مستويات تاريخية مرتفعة لفترة طويلة، تقارب أسعار الغاز في أوروبا وآسيا الآن ضعف سعر البترول لتوليد نفس قدر الطاقة، وبالنسبة للبعض، هذه لحظة فارقة في سوق الغاز العالمي، وهي لمحة عما يأتي مستقبلا مع تسارع انتقال الطاقة وتحولت الطلب عن الوقود الأحفوري الأكثر قذارة.
لكن التحليل الأكثر احتمالية هو أن الأسعار الحالية قد تعكس ببساطة سوقا تنافسيا يستجيب لمزيج غير عادي من القوى الاقتصادية، ومن المحتمل حدوث تصحيح حاد في المستقبل القريب، والأسعار مرتفعة بالتأكيد، ومنذ تطوير نقطة تداول الغاز في بريطانيا في عام 1996، كان هناك شهر واحد فقط (يناير 2006) عندما كان سعر التسوية الشهرية أعلى من 100 بنس لكل وحدة حرارية حرارة.
كان سعر التسوية لهذا الشهر 111 بنسا لكل وحدة حرارية، وفي أكتوبر سيكون أعلى عند 170 بنسا للحرارة وأسباب هذا الارتفاع معروفة جيدا إذ أدى الطقس البارد في أوائل عام 2021 إلى ارتفاع الطلب في آسيا بينما أدى انخفاض إنتاج الطاقة الكهرومائية في أمريكا الجنوبية إلى سحب شحنات الغاز الطبيعي المسال بعيدا عن أوروبا.
وما زاد الطين بلة، أن العديد من المشاكل في مصانع تصدير الغاز الطبيعي المسال المتعلقة بنقص الوقود والمشاكل الفنية أدت إلى تقييد الإمدادات، وفي الوقت نفسه، كان هناك انخفاض في إنتاج الغاز الأوروبي، ويرجع ذلك جزئيا إلى تأجيل عمليات الصيانة بسبب الوباء، بجانب واردات خطوط الأنابيب الأضعف من المتوقع من روسيا وزيادة الطلب في أعقاب انخفاض طاقة الرياح، أدى كل هذا إلى إعاقة قدرة أوروبا على إعادة ملء مخزونها المستنفد.
تعد الطبيعة المتزامنة لهذه الأحداث بمثابة تذكير صارخ بأن أسعار الغاز في بريطانيا وأوروبا جزء من الصورة العالمية، وفي الواقع لم تكن زيادة إنتاج الغاز في بريطانيا أو زيادة تخزين الغاز لتحدث أي فرق حقيقي، وإنما في هذا السوق العالمي المترابط، يؤثر ما يحدث للطلب على الغاز في بكين وبانكوك وبنغالور على أسعار الغاز في بريطانيا بنفس القدر، إن لم يكن أكثر من تأثير اتجاهات الطلب في برايتون وبرمنغهام وبولتون.
ومع دخولنا في فصل الشتاء وأسعار الغاز مرتفعة بشكل قياسي بالفعل، تصب الأسواق أعينها على أزمة طاقة تلوح في الأفق، ولكن يمكن القول إن أسعار الغاز بالجملة تتضمن بالفعل علاوة “الخوف”، وتسعير التوقعات بأن شتاء العام الجاري سيكون مثل العام الماضي أي شتاء طويل بارد، وكان شتاء 2020-2021 أكثر برودة من المتوسط خلال الأربعين عاما الماضية في أوروبا وروسيا وشمال شرق آسيا.
وعند وضع ذلك في الاعتبار، فإن مشتري الغاز الطبيعي المسال (بشكل أساسي في آسيا) يقومون بالفعل بتخزينه، خوفا من تكرار ما حدث العام الماضي عندما كانوا غير مستعدين، وهو ما يؤدي إلى إبقاء الأسعار مرتفعة وسحب الشحنات بعيدا عن أوروبا التي تسعى إلى تجديد المخزونات، ومع ذلك، تمتليء المخزونات الأوروبية بوتيرة ثابتة، وإذا استمر هذا في أكتوبر، فيمكن الصمود جيدا حتى في فصل شتاء بنفس برودة الشتاء الماضي.
ومع ذلك، وانطلاقا من مستوى الأسعار الحالية، من المحتمل أن يؤدي انخفاض قصير وحاد في درجات الحرارة الشتاء القادم (على غرار نمط الطقس “الوحش من الشرق” الذي شوهد في بريطانيا في عام 2018) إلى ارتفاع الأسعار لفترة وجيزة، لكن الأمر يتطلب شتاء أطول وأبرد من العام الماضي لرؤية ارتفاع مستدام في الأسعار فوق المستويات الحالية.
وستجبر أسعار الغاز المرتفعة، بدورها، المستخدمين النهائيين الكبار في الصناعة والطاقة على الابتعاد عن الغاز، بينما ستحتاج بعض الصناعات إلى الإغلاق لفترة من الوقت، لكن هناك سيناريو آخر: سيسمح الشتاء الأكثر اعتدالًا للمشترين الأوروبيين بتجديد المخزونات بشكل أفضل وتحمل أي نوبات برد محتملة في يناير وفبراير، وإذا لم تأت موجة البرد، فيمكننا توقع انخفاض أسعار الغاز، ومع دخولنا في عام 2022، من غير المرجح أن تتكرر بعض الزيادات في الطلب لمرة واحدة في أمريكا الجنوبية وشمال شرق آسيا، حتى مع استمرار شهية الصين للغاز في النمو.
بدأت بالفعل بعض مشكلات إمدادات الغاز الطبيعي المسال في الانحسار وهناك مصانع جديدة من المتوقع أن تبدأ العمل في الولايات المتحدة، ومن المتوقع أيضا أن تبدأ التدفقات من روسيا عبر خط أنابيب نوردستريم 2 في وقت لاحق من عام 2022، لكنها لن تكون مفيدة في فصل الشتاء البارد جدا، ولكن من المفترض أن تساعد في تهدئة الأسعار في وقت لاحق من العام.
ربما لم يكن عدم اليقين المحيط بأسعار الغاز خلال الأشهر الـ 12 المقبلة أكبر من أي وقت مضى، لكن الظروف كانت ولا تزال استثنائية، وفي عام 2020، أدت الاستجابات إلى الوباء إلى خفض الطلب على الغاز في كل مكان تقريبا (باستثناء الصين) بينما استمرت الإمدادات في الارتفاع في سوق يشهد فائضا في العرض بالفعل.
أما العام الجاري كان كل شيء عكس ذلك تماما: توقف نمو العرض وارتفع نمو الطلب، وكما كانت الأسعار المنخفضة تاريخيا في عام 2020 انعكاسا لأساسيات العرض والطلب، فإن الأسعار المرتفعة تاريخيا في عام 2021 هي أيضا انعكاسا لنفس الشيء، وعندما يعمل السوق، يمكن أن يكون الأمر أشبه بركوب الأفعوانية.
بقلم: مايك فولوود، زميل أبحاث أول في معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة.
المصدر: صحيفة “فاينانشال تايمز”.