تستعد فئة صناع السياسة فى أوروبا لمواجهة قد يتردد صداها لأعوام قادمة، فالشراهة الشديدة فى الاقتراض العام اللازمة لتمويل الإنفاق خلال أزمة “كورونا” تجبر الجميع على إعادة التفكير فى قواعد الاتحاد الأوروبى التى تحكم الدين والعجز، مما يفضح الصدع السياسى حول النظرية الاقتصادية.
ويضغط رئيس الوزراء الإيطالى ماريو دراجى، والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، لتحرير اقتصاداتهما من قيود الاتحاد الأوروبى السابقة للوباء، لكنهما يواجهان مقاومة من زعماء دول الشمال الذين يفخرون بظهورهم على أنهم يتحملون المسئولية المالية فضلاً عن الجمود المؤسسى.
وتم تضمين ميثاق الاستقرار والنمو الذى يعود تاريخه إلى ربع قرن فى معاهدة، لذلك فإن أى تعديلات يجب أن تصدق عليها 27 هيئة تشريعية، حسبما ذكرت مجلة “بيزنس ويك” التابعة لوكالة أنباء “بلومبرج”.
ومع انتهاء البنك المركزى الأوروبى للتو من تجديد مثير للجدل للسياسة النقدية، فإن نتيجة هذه المعركة القادمة ستحدد نطاق العمل المالى للعقد القادم، وربما آفاق النمو فى الاتحاد الأوروبى أيضاً.
ويقول ماريو مونتى، أحد أسلاف دراجى ومفوض الاتحاد الأوروبى السابق الذى حضر المناقشات عند الاتفاق على النظام فى التسعينيات: “يعتقد الكثير فى جنوب أوروبا أنه لا ينبغى أبداً أن تكون هناك عودة حقيقية للقواعد”.
وأشار مونتى، الذى يعتقد أن الإصلاحات الهيكلية يجب أن تكون لها الأسبقية، إلى أن “العجز الحكومى المرتفع والممول بشكل كبير من البنك المركزى الأوروبى يُنظر إليه باعتباره المحرك الرئيسى للنمو”.
وجاءت صياغة ميثاق الاستقرار والنمو فى منطقة اليورو بناءاً على طلب الألمان، الذين سعوا إلى وسيلة لفرض قيود الإنفاق على جيرانهم الأكثر إسرافاً فى الجنوب، وهذا الميثاق يضع حداً للعجز عند 3% من الناتج المحلى الإجمالى والديون عند 60% من الناتج المحلى الإجمالى، ويتعرض المخالفون للمضايقة والغرامات.
ووضعت القواعد فى وقت لم يكن بمقدور القادة توقع أن تكون الحكومات قادرة على الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة بشكل تاريخى اليوم، ولهذا السبب غالباً ما يصف الاقتصاديون الاتفاقية بأنها قيود غير ضرورية.
وفى عام 2021، فعلت المفوضية الأوروبية “بند الهروب” فى الاتفاقية، مما سمح للدول بإنفاق مبالغ غير عادية لتخفيف الألم البشرى والاقتصادى الناتج عن تفشى جائحة كورونا، لكن يجب أن تتفق الدول الآن على ما سيحدث عندما ينتهى التعليق فى عام 2023.
وفى الوقت نفسه، يريد ما يسمى بالمقتصدون إدخال تغييرات محدودة على القواعد الأصلية، فهم يتبنون وجهة نظر مفادها أن مشتريات البنك المركزى الأوروبى الضخمة من السندات الحكومية كجزء من جهود الإنقاذ الوبائى جعلت الحكومات تعتمد بشكل مفرط على دعم البنك المركزى.
ويقول ليكس هوجدون، الأستاذ فى جامعة جرونينجن: “نحن بحاجة إلى توحيد السياسة المالية للمضى قدماً وتخفيف أعباء البنك المركزى الأوروبى وزيادة مرونة منطقة اليورو”.
وثمة فئة أخرى، تقودها إيطاليا وفرنسا، وتضم إسبانيا ودول أخرى، تقول هذه الفئة إن القيود التعسفية للاتفاقية تعمل مثل كابح للنمو الاقتصادى وتسهم فى جعل أعباء الديون غير مستدامة.
وتعكس مثل هذه الآراء الإجماع الاقتصادى الذى تبلور من خلال أزمة الديون اليونانية فى العقد الماضى، والتى أصدر صندوق النقد الدولى فى أعقابها قراراً قانونياً، قائلاً إن إجراءات التقشف الصارمة المفروضة كشرط لتخفيف الديون قد تسببت فى تفاقم مأزق البلاد.
وفى توضيح للفلسفة السائدة لاقتصادات العالم المتقدم، قال وزير المالية الفرنسى برونو لومير يوم 14 ديسمبر، إن “الاستثمار هو الذى يدعم النمو والنمو الذى سيسرع من خفض الديون”.
وجدير بالذكر أن “دراجى” أدان الاتفاقية الحالية مراراً وتكراراً، قائلاً إن قواعدها “عفا عليها الزمن”، ثم أبرم هو و”ماكرون” معاهدة ثنائية فى 26 نوفمبر وتعهدا بتحقيق المزيد من التعاون المكثف فى مجموعة من المجالات، بما فى ذلك السياسة المالية.
كما علق جيرترود تومبل جوجريل، العضو النمساوى السابق فى المجلس التنفيذى للبنك المركزى الأوروبى، على الأمر قائلاً: “كان من الصواب التعامل بسرعة مع الوباء، لكننا بحاجة إلى إعادة الإنفاق إلى مستويات طبيعية أكثر”.
وكذلك، يدعو المجلس المالى الأوروبى، وهو لجنة من مستشارى الاتحاد الأوروبى، إلى السماح بوتيرة أبطأ لخفض الديون مع الاعتراف بالحاجة المستمرة إلى “وظائف رقمية واضحة ويمكن التعرف عليها” مثل قاعدة عجز الميزانية المثيرة للجدل البالغة 3%.
وهناك فكرة أخرى عن بنك الاستثمار الأوروبى قيد المناقشة وهى عبارة عن بند من شأنه أن يتيح المجال أمام الاستثمار الأخضر، مردداً صدى السياسة التى تنتهجها ألمانيا.
ومما لا شك فيه أن المناقشات ستكون طويلة ومثيرة للجدل، حيث تخطط فرنسا، التى توشك على تولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبى، لعقد قمة فى مارس، على الرغم من أن المفوضية تستعد أيضاً لكسب الوقت من خلال اقتراح أهداف مالية مؤقتة لعام 2023.