استطلاع: انخفاض مستويات المعيشة فى بريطانيا مع تفوق التضخم على الأجور فى العام الجديد
الحكومة تحجم بكل وضوح عن مساعدة الشركات المتضررة من الوباء
يبدو أن بريطانيا ستتخلف عن الدول المتقدمة الأخرى فى انتعاشها الاقتصادى من الوباء خلال 2022.
وتوقع اقتصاديون خضعوا لاستطلاع رأى أجرته صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية أن يتراجع النمو الاقتصادى فى بريطانيا بسبب الغموض السياسى والآثار اللاحقة للخروج من الاتحاد الأوروبى.
من بين ما يقرب من 100 اقتصادى خضعوا للاستطلاع، قالت الأغلبية إن مستويات المعيشة فى المملكة المتحدة ستزداد سوءاً فى العام الجديد، وستتضرر الأسر الفقيرة بشدة من ارتفاع التضخم والضرائب، وكانت أكبر التحديات التى يتوقع أن يواجهها اقتصاد البلاد، عالمية بطبيعتها، وتتمثل فى ارتفاع أسعار الطاقة، والضغوط التضخمية الأوسع نطاقاً المرتبطة بالوباء، والنقص المستمر فى العمالة، وتعطيل سلاسل الإمداد، واستمرار موجات العدوى الفيروسية، والمخاطر المتزايدة لتغير المناخ.
وجادل الكثيرون بأن المملكة المتحدة ستواجه صعوبة فى التعامل مع هذه الصدمات أكثر من نظيراتها، نظراً لتناقص الدعم المالى وإضرار الخروج من الاتحاد الأوروبى بالتجارة وزيادة اختناقات العرض، ويبدو أن انعدام اليقين السياسى سيردع على الأرجح الاستثمار.
قال جاجيت تشادا، مدير المعهد الوطنى للبحوث الاقتصادية والاجتماعية، إن «المزيج المكون من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى وعدم اليقين السياسى سيستمر فى إعاقة ما كان من الممكن أن يكون تعافياً قوياً».
وأفاد بول دى جراوى، الأستاذ فى كلية لندن للاقتصاد، أن «عمليات التعافى مدفوعة بالتفاؤل بشأن المستقبل، لكن الخروج سيفرض تشاؤماً مزمناً بشأن مستقبل الاقتصاد البريطانى».
ربما يبدو فى الظاهر أن هذا التشاؤم مبالغاً فيه، فقد قال العديد من المشاركين فى الاستطلاع، إن معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى البريطانى يجب أن يتجاوز أو على الأقل يتطابق مع منطقة اليورو فى عام 2022، حتى لو كان من المرجح أن يدفع التحفيز توسعاً أسرع فى الولايات المتحدة.
قال كالوم بيكرينج، كبير الاقتصاديين فى بنك «بيرنبرغ»، إن المستهلكين يتمتعون بميزة «صافى الثروة القياسى وأسواق العمل المزدهرة وكومة ضخمة من المدخرات الفائضة»، بينما تتمتع الشركات بنوايا استثمارية قوية، ووصف بول ديلز، كبير الاقتصاديين فى شركة الاستشارات «كابيتال إيكونوميكس»، النمو القوى بأنه «سراب إحصائى ناتج عن الوباء».
وأشار ديلز وكثير غيره إلى أن اقتصاد بريطانيا كان ينتعش بشكل أسرع لأنه غرق فى حفرة أعمق، فمستوى الناتج المحلى الإجمالى لم يتعاف بعد لمستوياته فى عام 2019.
مع دخول الضوابط الجمركية الكاملة حيز التنفيذ فى المملكة المتحدة فى عام 2022، قال الكثيرون إن الخروج من الاتحاد الأوروبى سيزيد من حدة الخلاف التجارى المرتبط بالوباء، مع استمرار تعطل سلسلة الإمداد ونقص العمالة مقارنة بالدول الأخرى، كما أن الضغوط التضخمية أكثر وضوحاً.
قال جون ليولين، وهو مستشار مستقل، بجانب سوشيل وادوانى، وهو مدير الأصول ومحدد أسعار الفائدة السابق فى البنك المركزى البريطانى، إن هذا سيجبر البنك المركزى البريطانى على تشديد السياسة النقدية أكثر من البنوك المركزية الأخرى، مما يؤدى إلى إبطاء تعافى المملكة المتحدة مقارنة بنظرائها بمرور الوقت.
فى حين أرجع البعض الفضل إلى الحكومة فى تعاملها مع الوباء خلال العام الماضي- خاصة مع سرعة طرح اللقاح- لم تكن ثمة ثقة كبيرة فى أن الوزراء سيستمرون فى دعم الانتعاش.
ومن هذا المنطلق، أشار وادوانى إلى «إحجام» الحكومة الواضح عن مساعدة الشركات المتضررة من متحور أوميكرون الفيروسى، بينما أشار باريت كوبليان، كبير الاقتصاديين فى شركة «برايس ووترهاوس كوبرز»، إلى «زيادات ضريبية تلوح فى الأفق».
وقال مورتن رافن، الأستاذ بجامعة كوليدج بلندن، إن الديون العامة المرتفعة فى البلاد تعنى صعوبة «صياغة إما حافز أو إصلاح ضريبى كبير».
بالنسبة للآخرين، كانت الحكومة نفسها جزءاً مركزياً من المشكلة، فقد أدت سلسلة من الفضائح إلى إضعاف تقييمات استطلاعات الرأى لرئيس الوزراء بوريس جونسون، وأثارت شبح تحدى القيادة.
وأشار المشاركون فى الاستطلاع إلى «السياسات غير المستقرة» وغياب خطة موثوقة لتعزيز الإنتاجية على المدى الطويل، كما توقع بانيكوس ديميترياديس، الأستاذ فى جامعة ليستر والمحافظ السابق للبنك المركزى القبرصى، إثارة تساؤلات حول التعامل مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى وأسلوب جونسون «التعسفى، إن لم يكن الفوضوى، فى الحكم».
ويمكن أن يساهم تحدى القيادة المحتمل لجونسون فى تشجيع الشركات على البقاء فى وضع «الانتظار والترقب»، وتأجيل قرارات الاستثمار حتى تصبح آفاق السياسة الاقتصادية أكثر وضوحاً.
مع ذلك، هناك مشكلة واحدة لم تكن من صنع الحكومة، وهى التضخم الذى سيصيغ التوقعات بشأن مستويات معيشة الأسر خلال العام، فقد بلغ التضخم %5.1 فى نوفمبر، وهو أعلى مستوياته منذ أكثر من عقد، ويتوقع ارتفاعه فى الربع الأول من العام ليظل أعلى بكثير من هدف البنك المركزى البالغ %2 فى نهاية عام 2022، ويعتقد جميع المشاركين فى الاستطلاع أن هذا سيجعل الناس أسوأ حالاً مادياً فى نهاية العام، لأن متوسط الأجور لن يواكب ارتفاع الأسعار والضرائب.
عن ذلك، يقول ألبيش باليجا، كبير الاقتصاديين فى اتحاد الصناعة البريطاني: «نحن فى طريقنا لمواجهة ضغط متجدد على الأجور خلال معظم العام، وهو ما سيؤثر على الأسر منخفضة الدخل بشكل خاص»، وقال بعض المستجيبين، إن الأسر ستستمر فى الإنفاق رغم ضغوط الأجور، لأنها قد تعتمد على المدخرات التى جُمعت أثناء عمليات الإغلاق.
وقالت ديان جوليوس، الزميلة فى معهد «تشاتام هاوس»، إنه إذا تركزت مكاسب الأجور بين ذوى الأجور المنخفضة، حيث كان النقص فى العمالة أوضح وأضافت: «سيشعر الكثيرون بحال أفضل مما يشعرون به الآن».
لكن ميلانى بيكر، الاقتصادية فى «رويال لندن أسيت مانجمنت»، حذرت من أن العام بدأ بشكل سىء بالفعل بالنسبة للعاملين فى القطاعات المتأثرة بسلالة أوميكرون، مع عدم وجود خطة إجازة مدفوعة لدعم الأرباح المفقودة.
كذلك، قال ديفيد بيل، الأستاذ فى جامعة «ستيرلنج»، إن أزمة مستويات المعيشة ستكون «حادة» بالنسبة للأسر الفقيرة، التى تنفق نسبة أعلى من دخلها على الطاقة.
وقال ديف إينيس، رئيس قسم الاقتصاد بمؤسسة «جوزيف راونترى»، إن دعم ملايين الأشخاص غير القادرين على العمل بسبب المرض أو الإعاقة سيبلغ أدنى مستوياته منذ عام 1990.
مع ذلك، رغم شبه الإجماع حول التوقعات الكئيبة للتمويل الأسرى، كانت هناك آراء متباينة على نطاق واسع حول ما يمكن أن يفعله البنك المركزى لتجنب أزمة تكلفة المعيشة.
وشعرت إحدى المجموعات أن صناع السياسة النقدية لا يمكنهم فعل الكثير حيال ارتفاع التضخم الذى يرجع بشكل كبير إلى تأثير الوباء وتحريفه الطلب نحو السلع مع تعطيل المعروض، وهى ضغوط من شأنها أن تخف بحلول نهاية عام 2022، بغض النظر عن مسار البنك المركزى.
ثمة مجموعة أخرى، قالت إن البنك المركزى البريطانى يجب أن يكون مستعداً لرفع أسعار الفائدة لمنع ارتفاع التضخم من التحول لسمة دائمة، حيث أصبحت الشركات والعمال يتوقعون ارتفاع التضخم ويحددون أسعارهم الخاصة ومتطلبات الأجور وفقاً لذلك.
رغم التشاؤم السائد بشأن النمو والتضخم ومستويات المعيشة، كان العديد من المشاركين فى استطلاع «فاينانشيال تايمز» يبذلون مجهوداً كبيراً للإشارة إلى أنه لن يكون «كل شيء كئيباً» فى العام الجديد.
يعتقد هؤلاء المشاركين أن ثمة مجال لتحقيق انتعاش طال انتظاره فى الاستثمار التجارى، مدفوعاً بندرة العمالة والتحول الرقمى الناتج عن تفشى الوباء والحاجة إلى اعتماد التكنولوجيا الخضراء.
ويمكن أن تسهم هذه التوقعات فى حث الشركات على القيام بأنواع الاستثمار اللازمة لتقليل الاعتماد على الوظائف ذات الإنتاجية المنخفضة، حسبما ذكرت نينا سكيرو، الرئيسة التنفيذية لشركة الاستشارات «سيبر»، ويأتى ذلك رغم أنها هى والآخرين شددوا على أن التقدم الحقيقى فى الإنتاجية سيستغرق أعواما، ويحتاج إلى دفعة أكبر بكثير من الحكومة.
مع ذلك، فبعد عام من الآن، من المرجح أن تعتمد حالة الاقتصاد البريطانى بدرجة أقل على ما حدث للتضخم أو الاستثمار بقدر اعتمادها على المسار الذى سلكه الوباء.
كذلك، أشار أندرو هيلتون، مدير مركز دراسة الابتكار المالى، إلى أن انخفاض الأجور الحقيقية أثر على المستهلكين بدرجة أقل من «الكآبة التى أثارها الخوف من عمليات الإغلاق المستمرة».
فى الوقت نفسه، قالت ديان كويل، أستاذة السياسة العامة فى جامعة كامبريدج: «دعونا نأمل فى طفرة ما بعد الجائحة أخيراً»، مشيرة إلى أنها الظاهرة المتفائلة التى يحتمل رؤيتها بشكل أكثر بحلول نهاية عام 2022.
وتوقعت كيتى أشر، كبيرة الاقتصاديين فى «إنستيتيوت أوف دايريكتورز»، التمتع بأوقات أفضل فى المستقبل، وقالت أشر إن «اقتصادنا يرغب فى النمو طالما يعتقد الناس أن أسوأ ما فى الوباء بات وراءنا، فإن الطلب القوى سيسهم فى الحفاظ على تحرك الأساسيات نحو الاتجاه الصحيح».