بغض النظر عن موعد وكيفية انتهاء الحرب الروسية في أوكرانيا، فإنها ستمزق البنية المعقدة لعلاقات إنتاج واستهلاك الطاقة وترسل الدول الكبرى المعتمدة على الصادرات والواردات إلى مرحلة التخطيط من أجل تأمين مستقبلها الاقتصادي.
تظهر الاضطرابات والفوضى التي عصفت بأسواق الطاقة العالمية في الأسابيع الأخيرة والارتفاع الحاد في أسعار البترول والغاز إلى مستويات عالية على مدى عدة عقود زمنية بوادر تراجع مع تزايد الآمال في إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام.
ربما نرى أيضاً الآثار المتتالية للعقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا بينما تبدأ في التراجع تدريجياً، حتى لو استمر ألم التضخم الحاد، لكن تسليح الطاقة بلا رحمة في صراع يضم أكبر منتجي ومستهلكين للبترول والغاز بالعالم سيترك لنا عجزاً مدمراً في الثقة.
تعد حرب أوكرانيا بمثابة دعوة للاستيقاظ لصُناع السياسات في الاقتصادات المعتمدة على استيراد البترول والغاز في جميع أنحاء آسيا الذين يعانون من أضرار جانبية، خصوصاً أولئك الذين ما زالوا يعتقدون أن بإمكانهم الاعتماد على المنطق السليم للزعماء الوطنيين والمبادئ الاقتصادية التي اختُبرت عبر الزمن لتأمينهم احتياجاتهم من الطاقة.
أشارت مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية إلى أن سلع الطاقة موجودة في أسواق شديدة الترابط، إذ تنتشر اضطرابات الإمدادات في جزء من العالم بسرعة إلى البقية.
يواجه المستخدمون الصناعيون والأسر حول العالم فواتير أعلى للوقود والمرافق نظراً لأن العقوبات المفروضة على روسيا والحظر المفروض على واردات الطاقة الروسية يثير اضطرابات في السوق.
إذا لم تستطع أوروبا تجديد مخزون الغاز خلال صيف 2022، فإن مستوردي الغاز الطبيعي المسال من اليابان إلى باكستان سيتحملون وطأة ارتفاع الأسعار في الشتاء المقبل، كما حدث خلال أزمة الطاقة في أواخر العام الماضي.
وأوضحت المجلة أن الانهيار غير المسبوق للثقة بين الدول المنتجة والمستهلكة يعد أمر مقلق وخطير، فهذه الثقة تعد جزء لا يتجزأ من ضمان الإنتاج والتدفق المناسبين وفي الوقت المناسب لجميع أشكال الطاقة حيثما ومتى كانت هناك حاجة إليها.
إذا بدأ كبار منتجي ومصدري السلع الأساسية في العيش تحت تهديد الانقطاع عن أسواقهم، فلن يخسروا المستثمرين الأجانب فحسب، بل لن يكون لديهم حافز لاستثمار أنفسهم في الحفاظ على القدرة الإنتاجية أو زيادتها، وهذا ما شهدناه بالفعل في إيران وفنزويلا، منتجي البترول الذين أصيبوا بالشلل بسبب العقوبات الأمريكية الأحادية.
مما لا شك فيه أن هذا الأمر سيؤدي إلى تضخيم التآكل المبكر للاستثمار في قطاع البترول والغاز الناجم عن مخاوف المناخ.
كذلك، لن يتمكن كبار مستهلكي ومستوردي الطاقة من تنفيذ خطط التوسع الاقتصادي أو أهداف انبعاثات صافية صفرية، نظراً لعدم قدرتهم على الاعتماد على استقرار مورديهم وإجبارهم على التعامل مع صدمة إمدادات الطاقة واحدة تلو الأخرى.
مع لجوء بعض الدول بالفعل إلى تدابير رجعية مثل وضع حد أقصى لأسعار الوقود وإعادة دعم الوقود وخفض الضرائب على الوقود، فإن هذا لن يؤدي فقط إلى زيادة ديون القطاع العام، بل قد يوقف الانتقال من الوقود الأحفوري إلى أشكال أنظف من الطاقة.
هناك دول أخرى يتم دفعها إلى تبني الفحم مرة أخرى، وهو مصدر طاقة أقذر لكنه أرخص، فقد قررت الصين، التي تستأثر أكثر من نصف استهلاك العالم من الفحم، زيادة الطاقة الإنتاجية المحلية بمقدار 300 مليون طن متري سنوياً في محاولة لاستبدال جميع واردات الفحم.
رغم الاضطرابات التي هزت أسواق الطاقة العالمية، رفضت منظمة الدول المصدرة للبترول “أوبك” والدول غير الأعضاء في “أوبك” طلبات من الدول المستهلكة الرئيسية لزيادة الإنتاج إلى ما بعد الزيادة المحافظة بمقدار 400 ألف برميل يومياً التي اعتمدتها في كل شهر.
ونفى التحالف ارتفاع أسعار البترول الخام نتيجة الخوف والمضاربة، ورفض اتخاذ هذا الأمر باعتباره سبباً لطرح مزيد من براميل البترول في السوق.
حتى لو لعبت الاعتبارات السياسية دوراً في هذا القرار- حيث تعد روسيا شريك مهم لكنه غير عضو في “أوبك” وقد لا ترغب في رؤية أقرانها يرفعون الإنتاج عند تقليص إمداداتها- فقد أظهرت دول “أوبك بلس” مستوى قلق منخفض بشأن النقص الكبير في الإنتاج مقابل الأهداف الشهرية منذ منتصف العام الماضي والاستنزاف المستمر لمخزونات البترول العالمية.
في الوقت نفسه، فإن التحولات المفاجئة في سياسة الطاقة في الغرب تترك أصحاب المصلحة في قطاعي الطاقة التقليدية والجديدة في حيرة من أمرهم، ناهيك عن المستهلكين.
وأصبح أفق انتقال الطاقة أكثر ضبابية في ظل أحداث عديدة، بدءاً من حث إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن منتجي البترول الصخري المحليين على زيادة الإنتاج بعد عرقلتهم في بداية الأمر بالقيود واللوائح، إلى عودة الفحم، ودعم تطوير البترول والغاز من جديد في بعض الدول الأوروبية.
كما أن التهديدات الجيوسياسية لإمدادات البترول والغاز قد تستمر في التفاقم إذا أثارت ضربة كوفيد والركود التضخمي اضطرابات عامة في مناطق الإنتاج الضعيفة بالفعل في الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
يتعين على الحكومات الآسيوية أن تفهم أن حرب أوكرانيا وغيرها من الصراعات المستقبلية ستُنقل إلى أعتابها، رغم الحياد السياسي، إذا أصبحت موارد الطاقة أسلحة الحرب الحديثة.
يحتاج القادة الآسيويون إلى أن يكونوا صوت العقل على المسرح الدولي، كما يتعين على الحكومات الآسيوية تكثيف دبلوماسية الطاقة مع المنتجين والقوى القائمة وتعزيز مخزون البترول والغاز في حالات الطوارئ للاستعداد بشكل أفضل لصدمة إمدادات الطاقة القادمة.