التوسع الأخضر أصبح الهدف الرئيسى للبنك الدولى ومنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية
استخدم كتاب «حدود النمو»، من تأليف دونيلا ميدوز وزملاء لها فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، نماذج حاسوبية جديدة للتنبؤ بانهيار لا يمكن السيطرة عليه فى عدد سكان العالم والاقتصاد العالمى إذا استمرت الأنماط الغالبة فى استخدام الموارد البيئية والتلوث.
الواقع أن النمو الاقتصادى المتسارع من غير الممكن أن يستمر إلى الأبد؛ فعند مرحلة ما خلال الأعوام المائة المقبلة، من المحتم أن يصطدم بالحدود البيئية المحدودة على كوكب الأرض.
بعد مرور نصف قرن، وفى ظل الأزمة المناخية والبيئية التى ألمت بنا، يعود بقوة الآن الجدال الذى أثاره كتاب حدود النمو عند صدوره.
فى عام 1972، قوبل الكتاب بانتقادات شديدة مباشرة من اقتصاديين زعموا أن مؤلفيه فشلوا فى فهم أساسيات الاقتصاد. إذا أصبح أحد الموارد نادرا، فسترتفع أسعاره، كما أشاروا. وعندها ستحل محله موارد أخرى، وستُـسـتَـخـدَم بقدر أكبر من الكفاءة.
كما سيؤدى الإبداع التكنولوجى إلى ابتكار طرق إنتاج جديدة وأكثر نظافة، وبدلا من تسببه فى انهيار اجتماعى، كان النمو بذلك قادرا على تصحيح مساره ذاتيا ــ ناهيك عن كونه السبيل الوحيد الذى تستطيع البلدان من خلاله التطور والإفلات من براثن الفقر.
ويقول الاقتصاديان مايكل جيكوبس، وخوليا ليكاس فى مقال لهما على موقع «بروجكت سينديكيت» إن نُـدرة المعادن ــ أو حتى الوقود الأحفورى لم تكن قَـط موضوع كتاب «حدود النمو»، فكما أشار الخبيران فى الاقتصاد البيئى، نيكولاس جورجيسكو روجن وهيرمان دالى، فإن السبب وراء وجود حدود مادية للنمو هو أن المحيط الحيوى للكوكب من غير الممكن أن ينمو على نحو مضطرد.
فإذا قطعنا الأشجار بسرعة أكبر من قدرتها على النمو، فسينتج عن ذلك إزالة الغابات، وإذا استهلكنا المزيد من الأراضى للزراعة، فستختفى الأنواع. وبضخ ثانى أكسيد الكربون فى الغلاف الجوى بسرعة أكبر من قدرته على امتصاصه، سترتفع درجات حرارة الكوكب.
بطبيعة الحال، يدرك أهل الاقتصاد المنتمون إلى التيار الرئيسى هذه الحقيقة، لكنهم لاحظوا أن النمو الاقتصادى يقاس من حيث الدخل الوطنى والناتج (الناتج المحلى الإجمالي)، ولا توجد علاقة بسيطة بين هذه المؤشرات والتدهور البيئى.
ومن الممكن أن يؤدى استخدام الطاقة المتجددة، وإعادة تدوير النفايات، وتحويل الاستهلاك من السلع إلى الخدمات، إلى جعل النمو الاقتصادى أقل إضرارا بالبيئة بدرجة كبيرة، وبهذا يمكننا أن نحصل على «النمو الأخضر» ونصل إلى مستويات معيشة أعلى وبيئة أكثر صحة أيضا.
على مدار العقد الماضى، أصبح النمو الأخضر الهدف الرسمى لكل المؤسسات الاقتصادية المتعددة الأطراف الرئيسية، بما فى ذلك «البنك الدولى» و»منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية».
وفى السنوات الأخيرة، انخفضت بالفعل انبعاثات ثانى أكسيد الكربون فى البلدان الغنية، حتى مع نمو اقتصاداتها، لكن قدرا كبيرا من هذا الفصل الواضح بين نمو الناتج المحلى الإجمالى والأضرار البيئية تحقق عن طريق نقل الانبعاثات إلى الصين والاقتصادات الناشئة التى تنتج الآن أغلب السلع المصنعة.
وفى مجالات أخرى ــ بما فى ذلك إزالة الغابات، والمخزونات السمكية، واستنفاد التربة ــ كان الفصل المطلق ضئيلا أو منعدما. وكما دأب الفريق الحكومى الدولى المعنى بتغير المناخ، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، على تحذيرنا بقدر متزايد من الإلحاح، فإن العالم لا يزال يتجه نحو كارثة بيئية.
ماذا يتعين علينا أن نفعل لتجنب هذه الكارثة؟ من منظور مجموعة متزايدة البروز من دعاة حماية البيئة، الإجابة واضحة: ينبغى للاقتصادات المتقدمة أن تتوقف عن النمو وتبدأ فى الانكماش.
إن «تقليص النمو»، كما يقول مؤلفون مثل جيسون هايكل وجورجوس كاليس، كفيل بتمكين العالم من الحياة فى حدود إمكانياته البيئية وترك القدر الكافى من الموارد لتنمية البلدان الأكثر فقرا.
علاوة على ذلك، يزعم أنصار تقليص النمو أن النمو الاقتصادى ليس غير مستدام فحسب بل إنه يفشل أيضا فى جعلنا أفضل حالا، وهم يلاحظون أن نمو الناتج المحلى الإجمالى فى البلدان الغنية يرتبط الآن بمشكلات اجتماعية متعددة، من تفشى التفاوت بين الناس إلى تزايد اعتلال الصحة العقلية.
ليس من المستغرب أن تكون المناقشة الاقتصادية بين دعاة النمو الأخضر وتقليص النمو هى أيضا مجادلة سياسية بين الإيديولوجيات المؤيدة والمناهضة للرأسمالية، لهذا السبب جزئيا، برز وضع ثالث فى السنوات الأخيرة ــ «ما بعد النمو».
ينتقد أنصار اقتصاديات ما بعد النمو المدافعين عن النمو الأخضر والمدافعين عن تقليص النمو بسبب تركيزهم على الناتج المحلى الإجمالى. الواقع أن الناتج المحلى الإجمالى لا يقيس التدهور البيئى أو الرفاهة الاجتماعية، وعلى هذا فلا ينبغى أن يكون النمو أو تقليص النمو هدفا اقتصاديا أساسيا.
فى تقرير حديث صادر عن منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، يزعم فريق من كبار خبراء الاقتصاد أن السياسة الاقتصادية يجب أن تركز بدلا من ذلك على أهداف المجتمع الأساسية ــ التى يجب أن تكون الاستدامة البيئية، وتحسين الرفاهة، وتضييق فجوة التفاوت، وتعظيم المرونة الاقتصادية فى البلدان الأكثر ثراء اليوم.
لم يعد من الممكن ضمان أى من هذه الغايات من خلال النمو الاقتصادى، ولهذا، يتعين على صناع السياسات أن يحرصوا على «تجاوز النمو» لاستهدافها بشكل مباشر.
على حد تعبير كيت راورث، مؤلفة كتاب «اقتصاديات الكعكة»، ينبغى لنا أن نكون «محايدين للنمو».
يتمثل أحد الأسباب الرئيسية وراء ظهور أفكار ما بعد النمو فى أن الاقتصادات المتقدمة كانت فى السنوات الأخيرة تواجه متاعب فى تحقيق أى نمو على الإطلاق، وحتى زيادات الناتج المحلى الإجمالى المعتادة فى السابق بنسبة 2% إلى 3% سنويا، كانت بعيدة المنال إلى حد كبير، مع نمو متواضع لا تدعمه سوى أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض وضخ أموال البنك المركزى بكميات ضخمة.
الواقع أن أهل الاقتصاد حائرون حول السبب وراء ذلك، لكن التباطؤ الاقتصادى فى الآونة الأخيرة يجعل من الأسهل التفكير فى معدلات النمو المنخفضة التى تجلبها السياسة البيئية، إذا كان هذا هو ما قد يحدث بالفعل. لا ينبغى للمرء أن يكون من دعاة حماية البيئة لكى يدرك الأولوية القصوى لكبح جماح التأثير المدمر الذى يخلفه الاقتصاد على مناخ كوكب الأرض وبيئته.
كان كتاب «حدود النمو» موضع تجاهل على نطاق واسع قبل نصف قرن من الزمن، ولو لم يحدث ذلك، لما كنا فى احتياج إلى إجراء هذه المناقشة مرة أخرى اليوم.