التجارة الحرة لم تعد القضية الرئيسية وقوى غير غربية باتت تفرض كلمتها
صعود قضايا البيئة والضرائب على حساب المناقشات التقليدية
كشفت النسخة الأخيرة من المنتدى الاقتصادى العالمى فى دافوس عن تغييرات كبيرة تشهدها العولمة حاليا، أبرزها تراجع قضية التجارة الحرة التى سيطرت على العالم لسنوات طويلة لصالح قضايا أخرى مثل قضايا المناخ والضرائب، مع صعود لاعبين عالميين ليسوا من الغرب.
وقالت صحيفة “بولتيكو”، إن العولمة كانت تدور فى الغالب حول الاقتصاد العالمى من تكثيف أنشطة التجارة، وانخفاض التعريفات الجمركية، والاستعانة بمصادر خارجية، وظهور العلامات التجارية متعددة الجنسيات.
وكان الغرب هو من تولى قيادة هذه السياسة، حيث تم تمويلها وتأييدها من قبل المؤسسات العالمية مثل منظمة التجارة العالمية. وفى أيام ما بعد الحرب الباردة، كان هذا هو الترتيب الطبيعى للأشياء وفقًا للمديرين التنفيذيين والقادة السياسيين الذين تشاركوا فى المنتدى الاقتصادى العالمي.
ولكن اليوم تتضاعف المخاطر السياسية و تتجه السلطات نحو اللامركزية لتغير مسار العولمة. و ظهرت هذه التوترات بشكل كامل فى منتدى دافوس مؤخرًا.
وانتشر التواجد الأوكرانى فى المدينة السويسرية، حيث كان الرئيس فولوديمير زيلينسكى يتمتع بجاذبية اكبر من أى من السياسيين الكبار على المنصة الرئيسية للمنتدى الاقتصادى العالمي.
وتكافح الحكومات لسداد الديون الناتجة عن الوباء و تلافى الاضرار المترتبة على ارتفاع معدلات التضخم، ولكن يبدو من الأمور الأكثر حظاً هو نقاش لجنة المنتدى الاقتصادى العالمى بشأن سياسة الضرائب العادلة، رغم صرخات المنظمات غير الحكومية.
فى الوقت الذى كانت فيه سلاسل التوريد التصنيعية معولمة، أصبحت حالياً فى كثير من الأحيان تمثل القواعد واللوائح التنظيمية، من إنهاء الثغرات الضريبية للشركات إلى فرض مستقبل محايد للكربون.
وقالت أرانشا جونزاليس، المديرة التنفيذية السابقة لمركز التجارة الدولية التابع للأمم المتحدة، ووزيرة خارجية إسبانيا السابقة للصحيفة: “لقد اتسع مفهومنا للمخاطر. كما أن الجزء المتعلق باللوائح التنظيمية سيكون بنفس أهمية فتح الأسواق. ولم يعد الأمر يتعلق بفتح الأسواق والتفكير فى أنها ستنجح أم لا”.
وتمتد هذه المخاطر من الوباء العالمى المستمر الذى وضع جدول أعمال العالم خلال العامين الماضيين إلى أزمة الغذاء العالمية التى تهدد حالياً بمجاعة جماعية.
وتعتبر التقنيات الرقمية هى الأكثر دعما ًمن التمويل لكل ما هو معولم اليوم، بدءاً من الفكر الإرهابى والكراهية والمعلومات المضللة إلى انتشار العملات المشفرة وخدمات البث الجديدة.
وتقول الصحيفة إنه يظل هناك قلق بشأن الاضطرابات فى الاقتصاد العالمى الناتجة عن عمليات إغلاق بسبب كورونا والحرب الروسية فى أوكرانيا.
كما وجدت دراسة جديدة لشركة “أسينتشر” أن اضطراب سلسلة التوريد قد يكلف اقتصادات منطقة اليورو ما يتجاوز تريليون دولار خلال العام الجاري، ونحو ما يصل إلى 7.7%من إجمالى الناتج المحلي.
وتضيف أنه يوجد خطر حقيقى يتمثل فى توقف بعض مكونات العولمة أو رجوعها إلى الوراء على المدى الطويل، مما يؤدى إلى انقسام العالم إلى كتل سياسية ديمقراطية وسلطوية، ممزقة بالعقوبات والتعريفات الجمركية وتدعمها شبكات الإنترنت الإقليمية.
وقالت جونزاليس”:” اثق أن العولمة ستستمر، رغم تغير مسارها، لأن العالم الذى تكتنفه التحديات العالمية يحتاج إلى أطر تعاونية. ولا أرى تراجع فى التوصيل البينى بالنسبة لي، فإن العولمة هى ترابط، وهذا يتزايد ولا ينقص”.
وتوافق رئيسة الوزراء الدنماركية السابقة هيلى ثورننج شميدت على ذلك: “علينا أن نجد طريقة للعمل مع الصين. كما يتعين علينا فى الأنظمة الديمقراطية أن نجد طرقًا للعمل مع البلدان التى لا تشاركنا قيمنا بالكامل”.
وتقول بوليتيكو إنه رغم تزايد المخاوف السياسية بشأن الصين فى الأنظمة اليمقراطية، لكن لا يوجد زخم واسع النطاق لتغيير العلاقات التجارية بشكل كبير بناءً على مخاوف حقوق الإنسان أو الملكية الفكرية.
وقالت وزيرة التجارة البريطانية، آن مارى تريفيليان، لصحيفة بوليتيكو:” ستستمر المخاوف، ولدينا علاقة تجارية ثنائية كبيرة للغاية مع الصين، ونريد لأعمالنا أن تستمر فى نموها”.
فى حين أن الحكومات الغربية تقلق بشأن سلاسل إمداد الطاقة وصعود الصين، فإن هذا لا يشغل بال بقية العالم، الذى يشعر غالبًا بالتهميش فى دافوس.
وقال كيشور محبوباني، من معهد أبحاث آسيا بجامعة سنغافورة الوطنية :” غالبية المنطقة تحاول الاندماج مع الصين”.
وأضاف محبوباني:” من الواضح أن الولايات المتحدة قررت محاولة منع الصين من أن تصبح الأولى. لكن الخطر الحقيقى من ذلك لا يتمثل فى توقف العولمة، بل فى تخريب أمريكا للكيان نفسه، وفى حال حاولت الولايات المتحدة الانفصال عن الصين، فسوف تنفصل عن معظم المنطقة”.
المستقبل هو الأقلمة
ووفقا لصحيفة ” بوليتيكو” رفض “آدم توز”، من جامعة كولومبيا، فكرة انتهاء العولمة. وقال: “الحياة كما نعرفها ستنتهى من الوجود. وعندما يؤيد البعض هذا، فهم إما ساذجون أو مروعون، كما أنها طريقة سيئة للتفكير فى المشكلة”.
ويتوقع “توز”، إعادة تشكيل للعولمة، وإعادة ترتيب، وتسييس فى نواحٍ معينة لبعض العلاقات.
كما يحذر ألكسندر ستاب، رئيس الوزراء الفنلندى السابق، من مستقبل معقد، حيث قال: “من التبسيط الشديد محاولة القول إننا نتجه نحو نوع من الحرب الباردة الجديدة، بنظام عالمى ليبرالى ونظام عالمى استبدادي. وأعتقد أنه سيكون لدينا المزيد من الأقلمة للعولمة، لكنها لن تختفي”.
وأضاف ألكسندر ستاب:” سيحتاج الغرب إلى التعديل، وفى حال أردنا العمل من أجل نظام قائم على القواعد، فلن يكون بالضرورة أن نضع القواعد بعد الوقت الحالي”.
ويقول لويك تاسيل، الرئيس الأوروبى لشركة بروكتر وجامبل:” سلاسل التوريد الإقليمية موجودة وستبقى، كما أن ما يتجاوز 90% مما سنبيعه فى أوروبا سيتم إنتاجه فى أوروبا. ويعد هذا تغيير عميق، وأعتقد أنه سيكون تغييرًا دائمًا “.
السياسة تلعب دورًا بارزًأ
ووفقاً للصحيفة، قد يأتى الخطر الأكبر على العولمة من التوقعات المتزايدة بأن الحكومات الديمقراطية والشركات التى تعتبر هذه البلدان موطنها يجب أن تقطع العلاقات مع الأنظمة البغيضة.
ووجد تقرير خاص عن مؤشر ” باروميتر إيدلمان” الذى نُشر يوم الاثنين الماضي، أن الشركات تخضع حالياً لمطالب جيوسياسية واسعة النطاق، حيث إن 95% من المشاركين فى الاستطلاع يتوقعون أن تتصرف الشركات استجابة للغزو الروسى غير المبرر من خلال التحدث علنًا، أو ممارسة الضغط السياسى والاقتصادى أو الخروج من سوق البلد المعتدي.
وقال رئيس مايكروسوفت، براد سميث : “عندما أغلقت الشركات فى روسيا، لم يكونوا يتخذون هذا القرار بشأن روسيا وحدها، حيث إن الانسحاب من روسيا كان رسالة لجميع الأنظمة الاستبدادية، واعترافًا ضمنيًا بأنها قد تضطر إلى الانسحاب من الأسواق الأخرى.
واضطر المنتدى الاقتصادى العالمى نفسه إلى تجميد علاقاته مع المنظمات والمديرين التنفيذيين الروس فى مارس الماضي، تحت ضغط سياسى وتجنب التقاضى بشأن خرق العقوبات.
وكما هو الحال مع الشركات العالمية الكبرى الأخرى، يجب على المنتدى الاقتصادى العالمى أن يواجه حالياً التساؤلات الصعبة بشأن رسم خطوطه الأخلاقية. تقليديا ، كان الحكام المستبدين موضع ترحيب بأذرع مفتوحة فى دافوس. وامتد التواصل خلال الأسبوع الجارى إلى “هون سين” من كمبوديا و”إيمرسون منانجاجوا” من زيمبابوي.
وتقول بوليتيكو إنه رغم ذلك فإن أيام الاعتقاد بأن الحوار والأسواق المفتوحة تؤدى إلى التحول الديمقراطى قد ولت. فالجميع يعلم أن الروابط الاقتصادية العالمية لا تؤدى إلى الاسترخاء السياسي. ومثل أى شخص آخر، لا يستطيع كبار خبراء العولمة تجنب إعادة رسم النظام العالمي.
ويبقى التساؤل الحقيقى ليس ما إذا كانت العولمة ستستمر، ولكن ما إذا كان المنتدى الاقتصادى العالمى الذى يركز على الأسواق والمتمحور حول الغرب يمكن أن يتطور معها.