كانت الأموال الروسية تتدفق عبر عالم البنوك السويسرية على مدى عقد زمنى تقريباً، لكن مع توتر علاقة روسيا مع الغرب فى الأعوام الأخيرة، فإن ما كان ذات يوم مصدراً لأرباح جديدة وفيرة للبنوك السويسرية أصبح يمثل خطراً مالياً ويتعلق بالسمعة.
فى الفترة السابقة للغزو الروسى لأوكرانيا خلال فبراير، كان الكثير من الأثرياء الروس يتخذون خطوات لحماية أموالهم بشكل أفضل من التدخل السياسى، إذ كانوا يسجلون الأصول بأسماء أقاربهم أو تحويلها إلى أماكن تخضع لعمليات تدقيق أقل مثل دبى.
فى أعقاب ذلك، تجرى عملية تطهير واسعة فى البنوك السويسرية، لمحاولة إنهاء العلاقات مع الأفراد الخاضعين للعقوبات، فقد كان سويسرا المحايدة تضاهى جميع التدابير العقابية المالية التى اتخذها الاتحاد الأوروبى ضد روسيا.
أصبح أكثر من 1100 شخص من النخبة الروسية- بمن فيهم شخصيات مثل الملياردير أندريه ميلينشينكو والمصرفى بيتر أفين، وكلاهما من الزوار المنتظمين لسويسرا- شخصيات مالية غير مرغوب فيها فى دولة افترض كثيرون أنها ستحافظ على سلامة ثرواتهم، بحسب صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية.
أعلنت أكبر المصارف، مثل الثلاثى المدرج فى البورصة «يو بى إس» و«كريديت سويس» و«جوليوس باير»، أنها ستوقف جميع الأعمال الجديدة فى روسيا.
ورغم ذلك، تبدو هذه كلمات مراوغة بالنسبة للنقاد، فالمشكلة تكمن فى عملائها الحاليين من الروس، ولا أحد يتوقع ظهور ثروات جديدة فى روسيا فى أى وقت قريب.
يقول بيل براودر، أحد منتقدى الكرملين منذ فترة طويلة ومستثمر روسى سابق: «تتمتع سويسرا بتاريخ رهيب عندما يتعلق الأمر بالأموال الروسية».
إنه متشكك فى مدى الالتزام بين المصرفيين السويسريين بإنفاذ العقوبات، ويقول إنهم يرغبون فى أن ينظر إليهم على أنهم يفعلون شيئاً ما، لكنهم فى الواقع لا يريدون فعل أى شيء».
توافق لجنة هلسنكى الأمريكية، وهى وكالة حكومية أمريكية مستقلة تراقب حقوق الإنسان وسيادة القانون فى أوروبا، على هذا الرأى، حيث وصفت فى تقرير صدر فى مايو، دولة جبال الألب ومصارفها بأنها «عامل تمكين» للرئيس الروسى فلاديمير بوتين ورفاقه.
ردت الحكومة السويسرية بالاتصال بوزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكين، احتجاجاً على ذلك، كما قال متحدث باسم الحكومة السويسرية إن الرئيس إجنازيو كاسيس «رفض التقرير بأشد العبارات الممكنة».
يذكر أن قوانين السرية المصرفية فى سويسرا صارمة، فالحديث عن العملاء قد يؤدى إلى فترات سجن طويلة، والحديث عن العملاء الروس يعد من أكبر المحرمات.
يظل حجم الأموال الروسية الموجودة فى سويسرا موضع تساؤل، وقد آثار اتحاد المصرفيين السويسريين، الهيئة الصناعية التى تمثل المصارف السويسرية، ضجة فى مارس عندما أصدر تفاصيل عن دراسة قدرت أن هناك 150 إلى 200 مليار فرنك سويسرى «أى ما يتراوح بين 154 و205 مليارات دولار» فى حسابات تعود إلى مواطنين روس.
فى نهاية العام الماضى، بلغ إجمالى السيولة النقدية التى تحتفظ بها البنوك السويسرية لمصلحة العملاء 7879 مليار فرنك سويسرى، كان أكثر من نصفها ثروات من الخارج، وفقا لاتحاد المصرفيين السويسريين.
أدى هذا الكشف إلى إثارة قلق صريح فى وسائل الإعلام السويسرية، فقد تساءل المعلقون، حتى فى المنافذ الإعلامية المحافظة مثل صحيفة «نويه تسوريشر تسايتونج»، عما إذا كان ينبغى لسويسرا التعامل مع الأنظمة الشمولية فى أى مكان فى العالم بعد الآن، لكن آخرين فى البلاد دافعوا عن علاقاتها الاقتصادية مع روسيا.
قال المدير المالى الجريء لمقاطعة تسوغ، وهى مركز مهم يتسم بالضرائب المنخفضة، فى مارس الماضى، إنها ليست مسئوليته «التصرف كمحقق» وإصدار أحكام على الأصول الروسية.
وفى أبريل، أعلنت تسوغ، وهى موطن لـ 37 ألف شركة، أنها لا تمتلك أصولاً خاضعة للعقوبات لإبلاغ العاصمة بيرن عنها.
مع ذلك، بحلول أبريل، أعلنت وزارة الشئون الاقتصادية أنها جمدت ما قيمته 9.7 مليار فرنك سويسرى من الأصول الروسية.
وأصرت السلطات على أن المبلغ يتناسب مع حجم تجميد الأصول فى المراكز المالية الرائدة الأخرى، لكن بيرن اضطرت للتراجع فى بعض الحالات، فقد أعلنت فى مايو أنها ستفك تجميد 3.4 مليار فرنك سويسرى من الأموال.
يقول إروين بولينجر، مسؤول وزارة الشئون الاقتصادية، إن سويسرا غير قادرة على تجميد الأموال «دون أسباب كافية»، مضيفاً أن الحكومة تلقت بيانات عن الحسابات الخاضعة للعقوبات فى أكثر من 70 مصرف من المصارف فى البلاد، فى حين أن إفصاح المصارف المباشر كان غير مكتمل.
قال توماس جوتشتاين، الرئيس التنفيذى لمصرف «كريدى سويس»، فى مؤتمر انعقد فى مارس إن نحو %4 من الأصول فى أعمال إدارة الثروات الأساسية لمصرفه كانت روسية، فهى تعادل نحو 33 مليار فرنك سويسرى.
فى الوقت نفسه، كشف مصرف «يو.بى.إس عن امتلاكه أصولاً بقيمة 22 مليار دولار «لروس لا يحق لهم الإقامة فى المنطقة الاقتصادية الأوروبية أو سويسرا»، ما يطرح سؤالاً مفتوحاً حول مقدار الأصول التى يملكها بشكل عام.
تشير وزارة الدولة لشئون الهجرة إلى وجود نحو 16500 روسى يقيمون بشكل دائم فى سويسرا، وعادةً ما تتم الموافقة على حصول الروس على الجنسية السويسرية أكثر من أى جنسية أخرى.
لم يكشف بنك «جوليوس باير» بشكل مباشر عن حجم أو ثروة قاعدة عملائه الروس، رغم أنه قال إن قيمة الأصول التى يمتلكها مصرفه الفرعى فى موسكو تبلغ نحو 400 مليون فرنك سويسرى.
فى حين أن المعلومات الواردة من العشرات من البنوك السويسرية الخاصة الأصغر حجماً غير كافية.
علاوة على ذلك، أدار عملاء أعمالهم عبر فروع البنوك السويسرية فى الخارج، مثل تلك الموجودة فى موناكو أو لندن أو آسيا، وليس من الواضح بعد ما إذا كانت الأنظمة السويسرية قد جمدت كل هذه الأصول.
يقول توماس بورير، دبلوماسى سويسرى بارز سابق تحول إلى مستشار وعمل مع عملاء روس بارزين، إن البنوك السويسرية انتقلت بشكل كبير من النهج الحر الذى اتبعته فى الأعوام السابقة، عندما كان هناك «إقبال على روسيا».
يدعم بورير سياسة العقوبات التى تنتهجها سويسرا، حيث يقول إن «تكون محايداً عسكرياً لا يعنى أن تكون غير مبال اقتصادياً».
مع ذلك، فهو يجادل بأن الثقافة المصرفية السويسرية لا تزال مختلفة تماماً عن أى مكان آخر فى الغرب، فحتى أكبر البنوك كانت تتشبث بالعلاقات مع العملاء الروس فى الوقت الذى تكشفت فيه الأزمة الأوكرانية.
كشفت «فاينانشيال تايمز» أن بنك «كريدى سويس» كان يطلب من المستثمرين فى مارس الماضى إتلاف الوثائق التى قد تعرض القلة الروسية التى تعاملت معهم إلى مخاطر قانونية.
اعترف رئيس تنفيذى فى أحد البنوك مؤخراً بأن هناك جوانب كثيرة غير واضحة فى تطبيق العقوبات، فجزءاً من المشكلة هو أن الإدارات القانونية للمصارف كانت تكافح للحصول على توضيح من بيرن بشأن عمليات تحويل الأصول التى ينظر لها باعتبارها تهرب من العقوبات وأيها ليست كذلك.
ينتقد كثيراً ممن عملوا فى الصناعة لفترة طويلة القواعد الجديدة التى يجب عليهم اتباعها عند النظر إلى عملاء جدد والتأكد من مصدر ثروتهم.
كان كثير من الروس أنفسهم يعلمون أن البنوك لم تعد ملاذات آمنة، خاصة منذ عام 2018 عندما بدأت البنوك السويسرية بتقديم تنازلات كبيرة لتبادل المعلومات حول حسابات العملاء مع الحكومات الأخرى.