أخفق فلاديمير بوتين فى توقعاته باحتلال أوكرانيا فى غضون أيام، وكان الغرب في حالة شك بنفس القدر بشأن فرص أوكرانيا فى النجاة من هجوم روسى، ومع ذلك، فقد مر أكثر من 150 يوماً على بدء الغزو الروسى الشامل لأوكرانيا، وبوتين بعيد كل البعد عن تحقيق هدفه الأصلى المتمثل فى تدمير أوكرانيا كدولة مستقلة، ولقد فقدت التوقعات السابقة لحرب قصيرة مصداقيتها تمامًا، ولم يعد المعلقون من جميع الأطراف يستبعدون أنها قد تستمر لعدة أشهر أخرى، إن لم يكن لسنوات.
ولا تغير طول مدة الصراع الاستراتيجية العسكرية فحسب، بل تغير حسابات الاقتصاد الكلى، فى الأيام الأولى للحرب، كانت سياسات الاقتصاد الكلى فى أوكرانيا تهدف إلى السيطرة على التوقعات وتجنب الذعر، واستندت هذه السياسات إلى التحكم فى الأسعار – على سبيل المثال – تم تثبيت سعر صرف الهريفنيا والدولار عند مستوى ما قبل الحرب، وتوفير تدابير مؤقتة لدعم الشركات والأسر، مثل تعليق رسوم الاستيراد، وكانت هذه الاستجابات مناسبة لمعالجة الصدمة الأولية، لكن مع استمرار الحرب، يجب تعديلها وإلا ستواجه أوكرانيا كارثة اقتصادية.
ويبدو أن البنك الوطنى الأوكرانى، البنك المركزى للبلاد، لديه وظيفة مستحيلة، أولاً، يوفر سعر صرف ثابت كنقطة ارتكاز اسمية مهمة، ثانياً، يتولى مسئولية سلامة النظام المالى لضمان وصول السيولة للاقتصاد وأن يعمل نظام الدفع بسلاسة، ويتمتع البنك المركزى ببعض السلطة على تدفقات رأس المال، لكن يجب السماح للاجئين الأوكرانيين فى الاتحاد الأوروبى ودول أخرى باستخدام العملة الصعبة الثمينة لدعم أنفسهم، ثالثًا، يتعين على البنك المركزى الأوكرانى تغطية الاحتياجات المالية الهائلة للحكومة لدفع تكاليف المجهود الحربى.
ويمكن أن ينجح مزيج السياسات هذا على المدى القصير، وعلى سبيل المثال، يمكن للبنك المركزى استنزاف احتياطيات النقد الأجنبى، لكن هذا المزيج لا يتوافق مع آفاق الحرب الأطول، وإذا لم يتم تعديل السياسات، فإن البنك المركزى الأوكرانى يواجه احتمالية ارتفاع التضخم، والاستنفاد الخطير لاحتياطيات النقد الأجنبى وخطر حدوث أزمة عملة، أو الذعر المصرفى.
الموارد المحدودة للحكومة تترك القليل من الخيارات الممتعة، وفى الآونة الأخيرة، اضطر البنك المركزى إلى خفض قيمة الهريفنيا بنسبة 25%، ولكن من المحتمل أن يوفر هذا راحة مؤقتة فقط حيث قد يكون من الضرورى إجراء تخفيض آخر لقيمة العملة، وبدلاً من ذلك، يمكن تعويم الهريفنيا للتداول بحرية أكبر، مما يساعد على معالجة الاختلالات المتراكمة فى الاقتصاد، لكن هذا يأتى على حساب خسارة السعر الثابت الاسمى، ويُعد استهداف التضخم قبل الحرب أقل فائدة، نظرًا لآلية النقل النقدى غير المؤكدة فى زمن الحرب.
ويمكن للسلطات المالية أيضًا محاولة زيادة الإيرادات والسيطرة على الإنفاق لكن هذه الخيارات صعبة، ومن الصعب رفع الضرائب عندما يكون الاقتصاد ضعيفًا، لكن أحد الاحتمالات هو فرض ضرائب على اقتصاد الظل من خلال الضرائب غير المباشرة مثل ضريبة الإنتاج أو زيادة رسوم الاستيراد.
ويتعين على وزارة المالية فى النهاية قبول الواقع والبدء فى الاقتراض من سوق الدين المحلى بفائدة أعلى بكثير، بدلاً من الاعتماد باستمرار على التمويل النقدى من البنك المركزى الأوكرانى لتغطية العجز فى الموازنة، وحتى الآن، باءت محاولات الاقتراض بأسعار فائدة حقيقية سلبية للغاية بالفشل إلى حد ما، على أى حال، فإن مهمة أوكرانيا واضحة: يجب تحسين الموقف المالى بشكل كبير للحفاظ على المجهود الحربى على مدى فترة طويلة.
لكن حلفاء أوكرانيا يواجهون مهام اقتصاد كلى خاصة بهم، وتدافع بلدى عن الأمن فى أوروبا، وفى الواقع، يتم تحديد النظام العالمى فى أوكرانيا.. إذا فازت روسيا بقيادة بوتين، فإن قانون الغاب سيكون النظام الجديد فى العلاقات الدولية.
ولكن لكى تستمر أوكرانيا فى القتال والفوز، فإنها لا تحتاج إلى المزيد من الأسلحة فحسب، بل تحتاج أيضًا إلى دعم اقتصادى على نطاق واسع، ومنذ بداية الحرب، تلقت أوكرانيا دعمًا خارجيًا يتراوح بين 2.5 و3 مليارات دولار شهريًا، ويبلغ التمويل الخارجى المتوقع للنصف الثانى من عام 2022 نحو 18 مليار دولار، وهو مبلغ كبير، لكنه أقل بكثير من احتياجات الدولة، ولتجنب الكارثة الاقتصادية فى أوكرانيا والحفاظ على قدرتها على القتال، يجب على الحلفاء دفع مبالغ أكبر بكثير تتراوح بين 4 و5 مليارات دولار شهريًا فى المستقبل القريب.
كل يوم من أيام الحرب يعنى فقدان المزيد من الأرواح وإصابة الأطفال بصدمات نفسية وتدمير المنازل، والتكلفة الاقتصادية للحرب ليست أقل وهى تمس الجميع من البنية التحتية المدمرة فى أوكرانيا إلى شبح الجوع فى إفريقيا وأماكن أخرى.
ويجب على أوكرانيا أن تربح هذه الحرب وأن تكسبها بسرعة، لكن الحرب الطويلة تبدو بشكل متزايد وكأنها السيناريو الأساسى، وهذا يتطلب إعادة ضبط سياسات الاقتصاد الكلى فى أوكرانيا والدول الحليفة للتأكد من أن الاقتصاد الأوكرانى يمكنه الحفاظ على المجهود الحربى طالما كان ذلك ضروريًا.
بقلم: أوليج تشورى، نائب محافظ سابق للبنك المركزى الأوكرانى
المصدر: صحيفة “فاينانشيال تايمز”