ثمة أوقات يريد فيها المرء أن يكون مخطئا، وشعرت بهذه الطريقة عدة مرات خلال الخمسة عشر شهرًا الماضية، سواء عندما حذرت العام الماضى من أن التضخم لن يكون مؤقتًا أو من أن الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى يتخلف بسرعة عن هدفه الخاص بالتضخم وتنفد منه خيارات السياسة الأفضل (الهبوط السلس).
واليوم، يتعلق عدم ارتياحى بوجهة النظر القائلة بأن تقرير الوظائف الأخير يشير إلى أن الولايات المتحدة ستتجنب الآن الركود، وهى وجهة نظر يتبناها العديد من المحللين والتى تنعكس فى أسعار الأسهم وسندات الشركات، وبينما آمل بشدة أن يكون هذا الرأى صحيحاً، أعتقد أنه من السابق لأوانه إعلان التخلى عن مراقبة الركود، وهو أمر يبدو أن سوق السندات الحكومية أكثر انسجاماً معه.
لا تفهمونى خطأ، كان التقرير قويا جدا. زادت الوظائف بمقدار 528 ألف، وهو ضعف توقعات الإجماع، ورفعت التوظيف فى الولايات المتحدة فوق مستوى ما قبل الوباء، وعند %3.5، وصل معدل البطالة إلى أدنى مستوياته قبل انتشار الوباء، وتنمو الأجور الآن بنسبة %5.2، مرة أخرى فوق الإجماع، وكانت خيبة الأمل الوحيدة هى معدل المشاركة فى العمل الذى يستمر فى الانخفاض.
تؤكد البيانات، أنه رغم أن التعريف الفنى للركود نتج عن انخفاض الناتج المحلى الإجمالى بنسبة %0.9 فى الربع الثانى، فإن الاقتصاد ليس فى حالة ركود باستخدام المفهوم الأكثر شمولية الذى تفضله الغالبية العظمى من الاقتصاديين. لكن هذا لا يعنى أن خطر حدوث ركود خلال الأشهر الـ 12 المقبلة قد انتهى، كما أن ذلك لا يضمن أن الركود، فى حالة حدوثه، سيكون ضحلًا وقصيرًا.
تشير المؤشرات المستقبلية إلى أنه لا ينبغى اعتبار القوة الحالية لسوق العمل أمراً مفروغاً منه، ولا يتعلق الأمر فقط بالتناقضات بين المسحين اللذين يشكلان التقرير الشهرى (المؤسسات والأسر).
بعيداً عن ذلك، تتراجع فرص العمل بمعدل سريع تاريخياً، وتتزايد مطالبات البطالة الأسبوعية، وقد أشارت العديد من الشركات إلى نيتها فى إبطاء التوظيف / أو تسريح العمال، وفى الوقت نفسه، فإن الآثار المفيدة لقانون الحد من التضخم الذى أقرته إدارة بايدن للتو لن تفعل الكثير لتغيير هذا على الفور، ثم هناك زاوية السياسة.
فمع بدء إصدار التقرير، رفض معظم الاقتصاديين التعليق الذى أدلى به رئيس بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى جيروم باول فى 27 يوليو باعتباره محيراً بأن أسعار الفائدة السياسية كانت محايدة بالفعل (المستوى لا يتماشى مع السياسة النقدية التوسعية أو الانكماشية).
أكد التقرير ما أشارت إليه البيانات والإشارات التحليلية الأخرى: لايزال لدى البنك المركزى الأمريكى الكثير من العمل الذى يتعين عليه القيام به من أجل أن تكون أسعار الفائدة محايدة خاصة بعد أن سُمح للتضخم بالترسخ فى النظام.
فى حين من المتوقع أن ينخفض معدل التضخم الرئيسى فى الأشهر الثلاثة المقبلة، فمن المرجح أن تظل المقاييس الأساسية للتضخم مرتفعة ومترسخة بشكل غير مريح، وبينما يسعى بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى لاستعادة السيطرة على التضخم واستعادة مصداقيته المتضررة، فإن الزيادات الحادة فى أسعار الفائدة وتقلص الميزانية العمومية المتضخمة البالغة 9 تريليونات دولار يخاطر بسحب البساط من تحت الاقتصاد والأسواق، الذين اعتادا لفترة طويلة جداً على العمل فى بيئة فائدة منخفضة للغاية وسيولة هائلة.
والحل البديل المتمثل فى وقف مؤقت لدورة رفع الفائدة ليس جيداً لأنه يخاطر بترك الولايات المتحدة تعانى من تضخم ومشكلات نمو فى 2023.
يتفهم سوق السندات الحكومية ذلك، كما يتضح من الانقلاب الحالى فى منحنى العائد مع ارتفاع أسعار الفائدة قصيرة الأجل فوق المعدلات طويلة الأجل، والمستثمرون مستعدون بشكل غير عادى لقبول علاوة أقل مقابل تخصيص أموالهم فى الآجال الأطول، وهذه إشارة تقليدية على تباطؤ الاقتصاد سريعاً، واشتد الانقلاب إلى حوالى 40 نقطة أساس بعد صدور تقرير الوظائف.
لم ينعكس كل هذا فى أسعار الأسهم وفروق سندات الشركات، والتى تظل مدعومة جيدًا بكل السيولة التى لاتزال تتدفق حول النظام وعقلية المستثمر التى تهدف إلى استغلال التقييم النسبى بدلاً من التقييم المطلق، وفى الواقع، التوقعات السائدة فى الأسواق هى أن أرباح الشركة ستتجاوز إلى حد كبير نمو المبيعات المنخفض، وتكاليف الأجور المرتفعة، بالإضافة إلى الزيادات فى بعض التكاليف الأخرى.
أنا بالتأكيد آمل أن يكون المتفائلون على حق، ففى ظل النمو الصينى البطيء والتهديد بحدوث ركود أوروبى، فإن آخر شيء يحتاجه الاقتصاد العالمى هو الصدمة المزدوجة من الركود الأمريكى والخطأ الأكبر فى سياسة الفيدرالى. فى الواقع، أنا أبحث عن أسباب لتبنى وجهات نظرهم، لكن لسوء الحظ، وللأسف الشديد، فإن تحليلى لما هو قادم لا يتفق مع ذلك.
بقلم: محمد العريان، مستشار اقتصادى لمجموعتى «أليانز» و«جرامسرى»، ورئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج.
المصدر: صحيفة «فاينانشال تايمز»