واجه اقتصاد المملكة المتحدة صدمات متتالية على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، إذ دفعت الجائحة بالمستهلكين للتسوق عبر الإنترنت، وموظفي المكاتب للعمل على طاولات المطابخ، والعاملين الأكبر سنًا إلى التقاعد.
وارتفعت أسعار الطاقة، بينما أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى إعادة كتابة قواعد التجارة والهجرة، الأمر الذي أعاد تشكيل سوق العمل.
مع ذلك، تشير أحدث البيانات الرسمية إلى أن هذا الاضطراب لم يحدث اختلافًا كبيرًا في مسار الإنتاجية المملكة المتحدة، وهو العامل الحاسم الذي سيحدد مستويات المعيشة على المدى الطويل.
أظهرت أرقام نشرها مكتب الإحصاءات الوطنية مؤخراً أن الناتج الاقتصادي لكل ساعة عمل، وهو المقياس الحيوي لإنتاجية العمل، كان أعلى في الربع الأخير من 2022 بنسبة 2.1% من المتوسط المسجل عام 2019 .
ذكرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية أن البيانات قدمت أول تصور موثوق نسبيًا لكيفية أداء إنتاجية المملكة المتحدة في أعقاب الجائحة، حيث كانت الأرقام السابقة مشوشة نظرًا لإغلاقات كوفيد وبرامج دعم الوظائف.
وتشير البيانات إلى أن الاتجاه الضعيف الذي أثر في مستويات المعيشة في المملكة المتحدة منذ الأزمة المالية العالمية لم يتغير بشكل أساس، وهو ما يعد مفاجأة وسط مدى تغير الاقتصاد وطريقة عمل الشركات.
حذر صُناع السياسة في بنك إنجلترا ومكتب مسؤولية الميزانية منذ البدابة بأن الجائحة تنطوي على خطر خفض الإنتاجية لأعوام، قائلين إن الأزمة حرمت الشركات من فرص الاستثمار أو الابتكار، بينما لن يتمكن العاملين الذين فقدوا وظائفهم أو غيروها من الاستفادة من مهاراتهم بالشكل الكامل.
كان اقتصاديون آخرون يأملون أن يكون للجائحة تأثير معاكس، ألا وهو تحقيق مكاسب إنتاجية غير متوقعة مع اضطرار الشركات الضعيفة إلى الإفلاس بسبب الركود ودفع الناجين إلى تبني تكنولوجيا وممارسات بشكل أسرع مما كانت ستفعل لولا ذلك.
قال جرانت فيتزنر، كبير الاقتصاديين في مكتب الإحصاء الوطني، إن “هذه إحدى ألغاز الجائحة، فعادة ما تؤدي الأزمات الكبرى إلى تغيير هيكلي كبير”.
يمثل ضعف نمو الإنتاجية مشكلة كبيرة، نظرا لأساس المملكة المتحدة المتدني مقارنة بغيرها، حيث تشير المقارنات الدولية إلى أن الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا تنتج أكثر من المملكة المتحدة بنحو السدس لكل ساعة عمل.
أحد النظريات المتعلقة بعدم تغير الاتجاه في الإنتاجية تدور حول أن الدعم المالي الحكومي الخاص بـ”كوفيد”، الذي حال دون إفلاس الشركات وأبقى العاملين على رأس عملهم، منع حدوث عملية “الدمار الخلاق”.
مع ذلك، يقول اقتصاديون آخرون إن التفسير الأكثر ترجيحًا هو وجود تغييرات إيجابية ومؤثرات تعويضية كبيرة، وأن النتيجة على المدى الطويل لم تأت بعد.
من جانبه، قال جريج ثويتس، مدير الأبحاث في مؤسسة ريزولوشن فاونديشن الفكرية، إن النقص الذي أعقب ذلك في الموظفين يمكن أن يدفع الشركات إلى العمل بكفاءة أكبر، حتى لو لم تستثمر في الآلات التي توفر تكاليف العمالة.
هناك أدلة غير مؤكدة تدعم وجهة نظر ثويتس، إذ بسطت كثير من الحانات والمطاعم قوائم الطعام بسبب صعوبة توظيف الطهاة، بينما تقول شركات النقل إن نقص السائقين أدى إلى عمل أكثر تنظيما مع محال السوبرماركت.
تكافح الشركات الفردية لزيادة الإنتاجية في مواجهة الصدمات قصيرة الأجل والرياح الهيكلية الكبيرة المعاكسة، فقد عادت الأعمال للتو في بعض القطاعات مثل الفنادق إلى طبيعتها، بينما تقلصت مكاسب الإنتاجية في القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة بما في ذلك التصنيع في العام الماضي.
قال بول مورتيمر لي، زميل أبحاث في المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية، إن المملكة المتحدة اتخذت بمرور الوقت “خيار مجتمعي” للتركيز على القطاعات ذات النمو البطيء في الإنتاجية، بدلاً من إنعاش التصنيع، الذي يمتلك إمكانات أكبر، ولهذا، دخلت في الجائحة “بظروف موجودة مسبقا، باستخدام كوفيد كوسيلة للمقارنة”.
كان من أكبر التأثيرات المعاكسة، دخول اللوائح التجارية في المملكة المتحدة حيز التنفيذ بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
كان بنك إنجلترا يقول دائمًا إن هذه الحواجز ستؤثر في الإنتاجية على المدى الطويل، لكنه الآن يعتقد أن التأثيرات بدت واضحة أسرع مما كان متوقعا في الأصل.
أدى كل من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وكوفيد وصدمة أسعار الطاقة إلى إعاقة الشركات عن الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات والآلات والمعدات الأخرى اللازمة لتحسين أداء العاملين.
وبالنسبة لبنك إنجلترا، الذي كان يعتقد سابقا أن نمو الإنتاجية سيتحسن، فلا يتوقع الآن أي تحسن قبل 2025.
قال ثويتس إن هذه مشكلات يمكن للوزراء معالجتها من خلال التفاوض على شروط أفضل للتجارة مع الاتحاد الأوروبي ومنح الشركات حوافز ضريبية دائمة للاستثمار، وكذلك من خلال مضاعفة جهود الحكومات المتعاقبة لإصلاح قواعد التخطيط وتعزيز مهارات القوى العاملة.
كذلك، أعلن المستشار جيريمي هانت، في ميزانية الربيع التي طرحها، عن برنامج إعفاء ضريبي لثلاثة أعوام بقيمة 27 مليار جنيه إسترليني بهدف زيادة استثمارات الشركات، إضافة إلى تدابير تهدف إلى تعزيز القوى العاملة في المملكة المتحدة.
لكن مكتب مسؤولية الميزانية كان يرى أنه ما لم يصبح الإعفاء الضريبي دائمًا، فإنه سيسرع ببساطة اتجاه الشركات نحو الاستثمار، ولن يغير ذلك كثافة رأس المال للاقتصاد أو مسار الإنتاجية.
وحتى دون تدخل الحكومة، يتوقع بعض الاقتصاديين انتعاش الإنتاجية في الاقتصادات المتقدمة مع بدء تأثير القوى التي أطلقتها الجائحة.
وحتى الآن، لا يبدو أن التغيير الأوسع نطاقًا، وهو تبني العمل الهجين على نطاق واسع، قد ساعد الإنتاجية إلى حد كبير أو أضرها مقاسًا بالناتج لكل ساعة عمل.
لكن الدراسات الاستقصائية العالمية تشير إلى أن الناس يقسمون الوقت الذي يتم توفيره من التنقل للعمل ووقت الفراغ ومسؤوليات الرعاية، وهو ما ينبغي نظريا أن يعزز الإنتاجية على مقياس الإنتاج لكل عامل البديل.
وصف فيتزنر هذا بأنه “حالة نادرة حيث كان التغيير في ممارسات العمل إيجابيًا لكل من العمال وأصحاب العمل”، مع تمتع أصحاب العمل “بقوة عاملة أكثر سعادة تعمل لساعات أطول قليلا”.
عززت التقدمات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي الآمال في انتعاش أكبر للإنتاجية، الذي سيكون تحقيقه بطيئا، إنما قد يغير الاقتصادات الغنية.
في الوقت نفسه، قال فان آرك إن “الإنتاجية هي مقياس طويل المدى، والتكنولوجيا موجودة، كما ستكون هناك قدرة على توليد المهارات، والاستمتاع بتوازن أفضل بين العمل والحياة، كما أن بعض الأمور السيئة يجب أن تختفي”.