لطالما كانت ألمانيا المحرك الاقتصادي لأوروبا على مدى عقود، وتسهم في نجاة المنطقة من أزمة تلو الأخرى، لكن يبدو أن هذه المرونة آخذة في الانهيار وتنذر بخطر على القارة بأكملها.
تضافرت عقود من سياسات الطاقة المعيبة وتلاشي السيارات العاملة بمحركات الاحتراق والتحول البطيء نحو التقنيات الحديثة لتشكل أكبر تهديد على ازدهار البلاد منذ إعادة التوحيد.
ولكن على عكس ما حدث في 1990، تفتقر الطبقة السياسية إلى القيادة اللازمة لمعالجة القضايا الهيكلية التي تقضم قلب القدرة التنافسية للبلاد، حسبما ذكرت وكالة أنباء “بلومبرج”.
بينما أظهرت برلين قدرتها في التغلب على الأزمات في الماضي، فإن السؤال المطروح الآن هو ما إذا كان بإمكانها اتباع استراتيجية مستدامة أم لا ؟
هذه الفكرة تبدو بعيدة المنال، خاصة أن الائتلاف المؤقت بزعامة المستشار أولاف شولتز، عاد إلى الصراعات الداخلية بشأن كل شيء بدءًا من الديون والإنفاق وحتى المضخات الحرارية وحدود السرعة بمجرد أن تراجعت مخاطر نقص الطاقة.
لكن تجاهل إشارات التحذير أصبح أمرًا صعبًا، إذ أظهرت أحدث البيانات أن الاقتصاد الألماني ينكمش فعليًا منذ أكتوبر ولم يتوسع إلا مرتين في الأرباع السنوية الخمسة الماضية، رغم أن شولتز أخبر “بلومبرج” في يناير أن ألمانيا ستتجاوز ضغوط الطاقة الروسية دون ركود هذا العام.
يتوقع الاقتصاديون تخلف النمو الاقتصادي في ألمانيا عن بقية دول المنطقة لأعوام قادمة، ويقدر صندوق النقد الدولي أن ألمانيا ستكون أسوأ اقتصاد في مجموعة السبع العام الجاري.
في حين أن شولتز بدا متفائلاً مرة أخرى، فقد قال للصحفيين في برلين بعد إعلان البيانات الاقتصادية الأخيرة إن “آفاق الاقتصاد الألماني جيدة جدا”، مضيفًا : “يمكننا التغلب على التحديات التي نواجهها” عبر إطلاق العنان لقوى السوق وإزالة الحواجز الروتينية.
الخطر هنا يكمن في أن البيانات الأخيرة ليست استثنائية بل هي علامة على أشياء قادمة، إذ ستجد ألمانيا نفسها غير قادرة على تلبية احتياجات الطاقة لقاعدتها الصناعية بشكل مستدام، بجانب اعتمادها المفرط على الهندسة التقليدية، وافتقارها للمرونة السياسية والتجارية للتركيز على القطاعات الأسرع نموًا.
جدير بالذكر أن مجموعة التحديات الهيكلية تشير إلى صحوة فاترة لمركز الطاقة الأوروبي.
يُحسب للبلاد أن عمالقة الصناعة، مثل “فولكس واجن” و “سيمنز” و “باير”، مُحاطة بآلاف الشركات المتوسطة والصغيرة، وأن عادات الإنفاق المتحفظة في البلاد وضعتها في وضع مالي أقوى من نظرائها لدعم التحول المقبل. لكنها لم يعد لديها وقتًا حتى تُضيعه.
القضية الأكثر إلحاحاً بالنسبة لألمانيا هي سلك مسارًا صحيحًا فيما يتعلق بتحول الطاقة، فقد يؤدي الإخفاق في تحقيق الاستقرار في الوضع إلى تدافع مزيدًا من الشركات المصنعة إلى دول أخرى.
تستجيب برلين لتلك المخاوف بالسعي لوضع سقف لأسعار الطاقة لبعض الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل المواد الكيماوية، حتى عام 2030، وهي خطة قد تكلف دافعي الضرائب نحو 30 مليار يورو “أي ما يعادل 32 مليار دولار”، لكن ذلك سيكون حلاً مؤقتاً، فيما سيظهر موقف ألمانيا البائس تجاه إمدادات الطاقة.
بعد إغلاق آخر مفاعلاتها النووية هذا الربيع ودفعها للتخلص التدريجي من الفحم بحلول عام 2030، أنتجت الدولة حوالي 10 جيجاوات من طاقة الرياح والطاقة الشمسية العام الماضي، وهي نصف الوتيرة التي تحتاجها لتحقيق الأهداف المناخية.
في الوقت نفسه، من المتوقع ارتفاع الطلب بشكل كبير إثر التحول إلى استخدام الكهرباء في كل شيء، بدءاً من التدفئة ووسائل النقل وحتى إنتاج الصلب والصناعات الثقيلة.
الحقيقة المرة هي أن الموارد اللازمة لتوليد هذا القدر الكبير من الطاقة النظيفة محدودة في ألمانيا بسبب سواحلها الصغيرة نسبيًا ونقص الشمس.
واستجابة لذلك، تتطلع البلاد إلى بناء بنية تحتية واسعة النطاق لاستيراد الهيدروجين من دول مثل أستراليا وكندا والسعودية، اعتمادًا على التكنولوجيا التي لم يتم اختبارها بهذا الحجم من قبل.
في الوقت نفسه، ستحتاج ألمانيا إلى تسريع بناء شبكات عالية الجهد تربط مزارع الرياح قبالة السواحل في الشمال بالمصانع والمدن المتعطشة للطاقة في الجنوب، بجانب أنها تفتقتر للقدرة على التخزين لضمان صمود البلاد في وجه أي اضطرابات.
يبدو الاقتصاد القوي في أوروبا وكأنه يتمتع بنظام جيد التمويل وراسخ لتوليد الأفكار للحفاظ على اقتصادها في الطليعة، فالإنفاق على البحث والتطوير يعتبر رابع أعلى معدل في العالم بعد الولايات المتحدة والصين واليابان.
كما أن حوالي ثلث براءات الاختراع المودعة في أوروبا تأتي من ألمانيا، وفقًا لبيانات من المكتب العالمي للبراءات.
مع ذلك، تتركز الكثير من قوة الابتكار في الشركات الكبرى مثل “سيمنز” و “فولكس واجن”، كما أنها تركز على الصناعات الراسخة.
في حين أن الشركات المصنعة الصغيرة لا تزال تزدهر، فإن عدد الشركات الناشئة الجديدة يتراجع في ألمانيا، على عكس النمو المُسجل في الاقتصادات المتقدمة الأخرى، وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
تظهر بيانات براءات الاختراع تلاشي قدرة ألمانيا على البقاء في الصدارة، ففي عام 2000، كانت من بين أكثر ثلاث دول في براءات الاختراع على مستوى العالم في 43 من أصل 58 فئة تقنية أساسية، لكنها حازت على التصنيف ذاته في عام 2019 في أقل من نصف عدد المجالات، وفقاً لدراسة حديثة أجرتها مؤسسة “برتلسمان شتيفتونج”.
يعتمد جزء كبير من الثروة والنظام الاجتماعي في ألمانيا على قطاع التصنيع الحيوي الذي يوفر وظائف ذات أجر جيد للعاملين من ذوي الياقات الزرقاء، لكن هذه القوة أدت إلى اعتماد خطير على الأسواق الخارجية للطلبات والمواد الخام، وخاصة الصين.
مثل الديمقراطيات الأخرى في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، تحاول برلين الآن التخلص من اعتمادها على القوة العظمى الآسيوية، لكن أكبر الشركات الألمانية لا تهتم بمثل هذه الأمور.